سلام من الله عليكم - مستمعينا الأفاضل - وكلّ المراحب بكم في لقاء آخر يجمعنا بكم بين رحاب الرياض الغنّاء لأدب نهج البلاغة وبديع بيانه عبر برنامجكم علي خطي النهج ، حيث سنواصل جولتنا في هذا الأسبوع بين مظاهر روعة الإيجاز في أقوال أمير المؤمنين عليه وحكمه وقصار كلمه ، ندعوكم للمتابعـــة ...
مستمعينا الأكارم !
يحفل الباب المخصّص من نهج البلاغة لقصار كلم أمير المؤمنين عليه السلام وحكمه بالكثير من آيات الإيجاز وحشد المعاني الغزيرة في القليل من الكلمات والألفاظ التي غدت أمثلة يستشهد بها علماء البلاغة علي روعة الإيجاز والاختصار ، ومن هذه النماذج التي تقف العقول والأذهان إزاءها متحيّرة قوله سلام الله عليه في الموقف الذي ينبغي علي المؤمن أن يتّخذه حين اشتداد الفتن واختلاط الأمور :
" كُن فِي الفِتنَةِ كَابنِ اللَبُون لا ظَهرٌ فيُركَب ولاضَرعٌ فَيُحلَب .
واللبون من الإبل والشاء هي ذات اللبن قلّ أوكثر. وابن اللبون فصيل الناقة قبل أن يقوى ظهره للركوب ، ويصلح ضرعه للحليب، والمراد بالفتنة هنا الباطل، والمعنى إذا رأيت باطلاً فلا تدخل فيه، بل احذر من أهله أن يخدعوك ويستغلوك في أغراضهم ومآربهم..
وهنالك قول آخر يستوقفنا في جمال الإيجاز فيه وتضمينه لتجاربه عليه السلام في الحياة في هذه العبارات القصيرة :
" أَزْرَى بِنَفْسِهِ مَنِ اسْتَشْعَرَ الطَّمَعَ، وَرَضِيَ بِالذُّلِّ مَنْ كَشَفَ ضُرَّهُ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ مَنْ أَمَّرَ عَلَيْهَا لِسَانَهُ .
الطمع ضد القناعة، لكن كثر استعماله ضد المروءة والورع حتى صار حقيقة فيه، أما حكمه فيقاس بآثاره ونتائجه، ان خيراً فخير، ان شراً فشر.
وقول الإمام من استشعر الطمع معناه من اتخذه ديناً له وديدناً وشعاراً بحيث لا يلتزم بشيء إلا على أساس منفعته الخاصة، ومن كان كذلك فقد حقر نفسه بنفسه، لأن الإنسان يقاس بأهدافه وأمانيه.
وقد يبتلى الإنسان بمرض وفقر وغيرهما من الآفات. وما من شك ان المرض بلاء، والفقر مصيبة، لكن الكشف والإعلان عنهما وعن أية آفة فضيحة. وقديماً قيل الشكوى لغير الله ذلّ.. وأية جدوى من الشكوى الى الناس ما دامت لا تدفع ضراً، لا تجلب نفعاً، تسوء المحب ، وتسرّ المبغض ؟! وأيضاً لا جدوى من أمر المبتلى وحثه على الصبر وكتمان العلة إلا إذا كان ذا عقل رزين ، لأن الصبر على قدر العقل .
مستمعينا الأفاضل !
وهكذا تتجلّي لنا آيات روعة الإيجاز و الإتيان بالمعاني والمفاهيم الغزيرة في ألفاظ وعبارات بلغت الغاية في الإيجاز والاختزال ، وهو فنّ برع فيه أمير المؤمنين عليه ، وكان فيه الفارس الأوّل الذي لايشقّ له غبار بعد النبيّ صلوات الله وسلامه عليه وآله ، وحول هذه الخصوصيّة التي ميّزت بلاغة الأمير بقوّة في نهجه ، سألنا خبير البرنامج السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة علي الهاتف فكان له جواب أدلي به قائلاً :
الكشميري: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. طبعاً هذه خصوصيات كثيرة للإمام في نهجه ولكن الامام يأخذ هذه الخصوصية من القرآن الكريم، القرآن الكريم يوجز في حديثه عن الكثير من الحقائق والآيات الكونية، لما يقسم الله سبحانه وتعالى بالشفق، الامام يفجر في ذهن الانسان آية كونية يمكن للمتحدث وللكاتب أن يكتب فيها آلاف الصفحات، يأتي الامام امير المؤمنين يعكس نفس الصورة في دعاءه المعروف بدعاء الصباح يشير الى هذه الظاهرة الكونية فيستعير هذا من القرآن "اللهم يامن دلع لسان الصباح بنطق تبلجه..." او لما يلاحظ الامام وصف الدنيا ووصف من يركض اليها ومن يركن الى زينتها. الامام ايضاً بإيجاز رائع يقول "وما أصف من دنيا أولها عناء وآخرها فناء من إفتقر فيها حزن ومن إستغنى فيها فتن ومن ساعاها فاتته ومن قعد عنها أتته ومن بصر بها بصرته ومن أبصر اليها أعمته" أنظر الى الروائع في الإيجاز، الامام كان يأخذ من هذه الآية "وما الانسان اذا ما إبتلاه ربه فنعمه" او مثلاً الآية "لقد خلقنا الانسان في كبد" وما الى ذلك.
المحاور: شكراً لفضيلة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة.
مستمعينا الأحبّة !
ومن بين أقواله عليه السلام التي تجلّي فيها الإيجاز بأبهي صوره من خلال توظيف الجمل القصيرة السريعة الخاطفة ، ومتابعة المعاني الغزيرة الواحد تلو الآخر والتي تدفعنا إلي الجولان بأذهاننا في هذا العالَم وبين الآفاق التي يرسمها لنا أمير البلاغة ، قوله سلام الله عليه :
" الْبُخْلُ عَارٌ، وَ الْجُبْنُ مَنْقَصَةٌ، وَ الْفَقْرُ يُخْرِسُ الْفَطِنَ عَنْ حُجَّتِهِ، وَ الْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ، وَ الْعَجْزُ آفَةٌ، وَ الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ، وَ الزُّهْدُ ثَرْوَةٌ، وَ الْوَرَعُ جُنَّةٌ .
فالبخل يخطّط لصاحبه منهجاً يسير عليه في تفكيره وسلوكه، لا يحيد عنه بحال، هذا المنهج يرفض بطبعه التعاونَ على الخير ومصلحة الفرد والجماعة، ويهدي الى القسوة وعدم الاكتراث بالناس ومشاكلهم.. ومن لا يهتم بهموم الناس فليس منهم ولا هو من الانسانية في شيء. ونعطف على ذلك ما جاء في قول آخر له عليه السلام من أن البخيل يعيش في الدنيا عيش الفقراء، يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء،فالبخل يفسد الرأي، يمنع صاحبه عن رؤية الحقيقة، لأنه ينظر الى الأشياء من خلال ذاته الشحيحة الشاحبة.
(والجبن منقصة) لأن الجبان يرى المنكر فيتعامى عنه، يسمع دعوة الجهاد في سبيل الله والحق فيصدّ عنه، إذا شكا اليه مظلوم أدار له ظهره، وإذا أراد أن يتكلم تهيّب النقد وذُعِرَ منه.. وهكذا يسلبه الخوف ما يملك من طاقات، فتراه يعيش حبيساً بين جدران الهواجس والأوهام بلا شخصية وإرادة، لا زهرة أو ثمرة إلا الهدير والثرثرة.. وهل علمنا وسمعنا أن للجبان شأنا وتاريخا ؟ ! .
مستمعينا الأكارم !
المحاورة: أيها الأفاضل أيها الكرام المزيد من قصار كلمه وروائع حكمه سلام الله عليه سيواليها علينا خبير البرنامج عبر الهاتف سماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة مع شيء من تسليط الأضواء وبيان مكامن روعة الإيجاز فيها، نتابع معاً هذا الحوار
الكشميري: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. كل احاديث الامام، خطب الامام، رسائل الامام الى ولاته وغير ولاته تحكي نماذج متعددة نلاحظ فيها قمة الابداع في الإيجاز وفي زرع المعنى السريع عند المتلقي. هذه هي من الصفات التي إنفرد بها الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه. أضرب كم مثال لأن الوقت محدود، مثلاً الامام رجله بركاب الفرس وتقدم اليه رجلاً. فقال يا أبا الحسن كم المسافة بيننا وبين الله؟ أجاب الامام بجواب رائع وموجز ولكنه واسع المعنى. قال له المسافة بين السماء والأرض دعوة مظلوم وتركه الامام ورحل. حينما نتصفح هذا الملف العظيم وهو نهج البلاغة نرى الكثير من الروائع التي تحكي لنا جمال الإيجاز في خطاب الامام علي، مثلاً الامام يسأل: يا أبا الحسن من هم خيار العباد؟ قال "الذين اذا احسنوا إستبشروا واذا أساؤوا إستغفروا واذا اعطوا شكروا واذا إبتلوا صبروا" يعني أربع زوايا حدد فيها الامام خيار العباد. ومثلاً يسأل الامام يا أبا الحسن من هو البخيل؟ فأجاب الامام بهذا الجواب الرائع الذي هو من باب "خير الكلام ما قلّ ودلّ"، قال عليه السلام "البخيل هو الذي اذا أعطى جحد واذا اعطي حقد". ويسأل الامام عن الحسد او عناصر الفشل او العناصر الفاشلة في المجتمع، الامام حددهم بأربعة. قال الامام "لاراحة لحسود ولا مودة لملول ولا مروءة لكذوب ولاسلامة لمن أكثر مخالطة الناس". او نلاحظ الإيجاز بصورة اخرى، عندما يخاطب الامام ولده الحسن وطبعاً الخطاب لكل الأجيال "يابني كن مع الناس بحيث لاتعد وغب عنهم بحيث لاتفقد" نلاحظ أن الامام اخذ كل هذا واستعاره من القرآن الكريم لأن لايوجد أحد بعد النبي، شخصية تشبعت بالقرآن الكريم وأسراره كالامام علي بن أبي طالب. القرآن يصور لنا قضايا تستوعب آلاف الصفحات وموسوعات بكلمة واحدة مثلاً القافلة التي جاءت وأنقذت النبي يوسف، آية واحدة بسيطة "وجاءت سيارة" الامام يستعير هذا المعنى لما سأل عن النعيم او الآخرة او الجنة فقال عليه السلام "خلق داراً وجعل فيها مطعماً ومشرباً وقصوراً وازواجاً وأثماراً" يعبر عن هذا كله. هكذا يبدو الوقت أشرف على الانتهاء.
المحاور: نعم أيها الأفاضل اخوتنا المستمعين والمستمعات نعود الآن ونشكر سماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
ونعود الآن بعد أن استمعنا إلي حديث خبير البرنامج من علي الهاتف ، إلي تلكم الدرر اللامعة ، واللآليء المكنونة من أقوال الأمير (ع) التي تتقطّر منها آيات الإيجاز لنتوقّف عند قوله :(والفقر يُخرس الفطِن عن حجّته) لأن الفقر يضغط على العقل، ويسد أمامه منافذ الرؤية..اللهم إلا إذا كان للفقير هدف أعلى يضحي بحياته من أجله، ينسى معه نفسه وبؤسه .
(والمُقِلّ غريب في بلدته) ومثله قوله عليه السلام "الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة" لأن من شأن الوطن أن يسهل لك العسير، يستجيب لحاجتك وأمنيتك، فالمال قاضي الحاجات، والفقر أصل الويلات، من هنا كان الفقر غربة في الوطن، والغنى وطناً في الغربة.
(والعجز آفة) وكلمة العجز تعم وتشمل وباء الفقر والمرض والجهل، هذه الأوباء الثلاثة آفة الإنسانية بكاملها، منها تنبع القبائح والرذائل، بخاصة الفقر فإنه السبب القريب والبعيد لأكثر الآفات والمشكلات.
(والصبر شجاعة) وجهاد. وحين يتحدث الإمام عن الصبر وفوائده فإنه يتحدث عن علم وتجربة ، فلقد رأى وشاهد صبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة المخلصين على الأذى والتنكيل في سبيل الإسلام ، وثباتهم عليه مستهينين بكل شيء، هذا الصبر هو الأصل والأساس لحياة الإسلام وانتشاره، وعلى صخرته تحطم الكفر والشرك، ولو لا هذا الصبر والثبات ما كانت الهجرة ولا بدر وأحد والأحزاب، بالتالي ما كان للإسلام عين ولا أثر.
(والزهد ثروة، والورع جنة) المراد بالزهد التورّع عن الحرام، والورع الكفّ عنه، و المعنى أن العفيف النزيه فيغنى عن الناس، وأمان من شرهم، لأنه بعفّته ونزاهته يرضى ويقنع بالميسور، فيكف أذاه عن الآخرين.
مستمعينا الأحبّة !
في ختام حلقتنا لهذا الأسبوع لا يسعنا إلّا أن نقدّم لكر كلّ شكرنا وامتنانا لكم علي جميل مرافتكم لنا بين أرجاء نهج البلاغة عبر برنامجكم علي خطي النهج ، وحديثنا عن روعة الإيجار في النهج لم ينته بعد بل سنكمله في الحلقة القادمة بإذن الله ، فكونوا في انتظارنا ، وحتي ذلك الحين نترككم في رعاية الله وحفظـــه.