مستمعينا الأفاضل !
سلام من الله عليكم و كلّ المراحب بكم في هذا اللقاء الجديد الذي يسرّنا أن يجمعنا بكم عند معالم ومظاهر أخري من آيات الفصاحة والبيان في نهج البلاغة من خلال برنامجكم الأسبوعي علي خطي النهج ، والذي سنخصّص حلقته لهذا الأسبوع لتقصّي مظاهر الإيجاز بأنواعه في كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه ، ندعوكم للمتابعـــة ...
مستمعينا الأحبّة !
عرّف علماء البلاغة الإيجاز بأنه وضع المعاني الكثيرة في ألفاظ أقل منها، شريطة أن تكون وافية بالغرض المقصود، مع الإبانة والإفصاح، كقوله تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرِض عن الجاهلين [الأعراف: ۱۹۹] ؛ فهذه الآية القصيرة جمعت مكارم الأخلاق بأسرها، وكقول أمير المؤمنين عليه السلام: "المرء مخبوء تحت لسانه وكقوله : "القناعة كنزٌ لايفني" فإذا لم تفِ العبارة بالغرض سمّي إخلالا وحذفاً رديئاً.
وينقسم الإيجاز إلى قسمين، إيجاز قصر، وإيجاز حذف. فإيجاز القصر ويسمى إيجاز البلاغة يكون بتضمين المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة من غير حذف، كقول الإمام عليه السلام في قصار كلمه : "اتّق شرَّ من أحسنتَ إليه . فإن معناه كثير، ولفظهُ يسير، إذ المراد: أن الإنسان عليه أن لا يحسن الظنّ ببعض البشر وأن لايتصوّر أنّ الإحسان إليهم سيكفيه شرّهم وأذاهم فهناك الكثير من الناس يعدّ اللؤم طبيعة متركّزة فيهم ، ولذلك فإن علي من يحسن إلي الآخرين أن يكون في حذر من أن يقلبوا ظهر المجنّ عليه ، ويردّوا علي الإحسان بالإساءة وهو ممّا يحدث كثيراً في حياتنا وتعاملنا مع الآخرين . وهذا القسم من البلاغة أي إيجاز القصر من غير حذف هو مطمح نظر البلغاء، وبه تتفاوت أقدارهم، حتى أن بعضهم سئل عن البلاغة فقال: هي "إيجاز القصر.
وإيجاز الحذف يكون بحذف شيء من العبارة لا يخل بالفهم، عند وجود ما يدل على المحذوف، من قرينة لفظية، أو معنوية. كقوله عليه السلام : "اللهَ اللهَ في الأيتام فلايضيعوا في حضرتكم ... أصله: اتقوا اللهَ في الأيتام ، وقوله : "مَن أطال الاَمَلَ اساء العمل ، أي من أطال الأمل في الدنيا أساء العملَ فيها. وكقوله: "قيمه كلّ امريءٍ ما يُحسنه، يريد عليه السلام أنّ قيمة كلّ امريء عند الله والناس في ما يحسنه من عمل بحق الآخرين .
وقيل إنّ الإيجاز يستحسن في الاستعطاف، وشكوى الحال، والاعتذارات، والتعزية، والعتاب،والوعد، والوعيد، والتوبيخ،و الرسائل والكتب الرسميّة ، ورسائل الملوك والحكّام والرؤساء في أوقات الحرب إلى مرؤوسيهم، والأوامر والنواهي الرئاسيّة و الملكية، والشكر على النعم. ومرجعنا في كلّ ذلك إلى الذّوق الأدبي، والإحساس الروحي.
مستمعينا الأعزّة !
نبثّ علي مسامعكم نصّ الحديث الذي أدلي به خبيرنا علي الهاتف الاستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من ايران جواباً علي سؤال طرحناه عليه حول أهميّة الإيجاز والاختصار في اللغة العربيّة ولماذا كلّ هذا التأكيد عليه من قبل علماء البلاغة إلي درجة اعتباره موازياً للبلاغة نفسها ؟
نقشبندي: بسم الله الرحمن الرحيم طبعاً أهمية الإيجاز والاختصار تأتي أولاً في منع التكرار الممل وعدم الانحراف عن المقصود وثالثاً اللفظ الصحيح في المكان الصحيح يعني جزالة استخدام اللفظ الصحيح ما يعرف بجزالة اللفظ ورابعاً الدقة في أصالة المعنى لأن اللغة العربية لغة واسعة. نرى في اللغة العربية كلمة او لفظة تطلق على عدة معاني لذلك يقال في مسئلة الايجاز والاختصار لهذه الأسباب. نهج البلاغة كما وصف النهج من قبل جامعه الشريف الرضي لأنه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق وهو كلام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وكما وصفه الرسول الأعظم "علي مع القرآن والقرآن مع علي". وكما نعرف أن أفصح الكلام وأبلغ الكلام هو كلام الله سبحانه وتعالى وكلام المعصوم وكلام امير المؤمنين هو بيان نوع آخر من البيان البديع للفظ القرآن الكريم ومعاني القرآن الكريم فهو لايخرج عن معاني القرآن الكريم بأي صورة من الصور. نرى أنه استخدم في المواعظ والخطب وفي الوصايا وفي الكتب والكلمات القصار كل هذه المعاني وهي متطابقة بشكل من الأشكال مع القرآن الكريم بأبدع وأجزل اللفظ دون التكرار الممل ومطول بكلمات في غاية الدقة وغاية الإيجاز مع إصابة المعنى.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان لفضيلة الأستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من الجمهورية الاسلامية في ايران.
مستمعينا الأفاضل !
ذكرنا أنّ إيجاز القصر هو تقليل الألفاظ وتكثير المعاني ، وأفضل نموذج علي ذلك في نهج البلاغة الخطبة الحادية والعشرون التي يقول سلام الله عليه فيها :
" فَإِنَّ الْغَايَةَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ وَرَاءَكُمُ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ .
حيث لا نكاد نجد بعد كلام الله سبحانه وحديث النبي (ص ) كلاماً يضارع كلامه عليه السلام في إيجازه وتضمّنه للمعاني الكثيرة في نفس الوقت ؛ وخاصة في عبارته " تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا . من حيث اشتمالها علي الحد الأدني من الألفاظ وعلي المعاني التي لاحصر لها ، فهي عبارة مفعمة بالمعاني حافلة بالمعرفة و غنيّة بالحكمة .
كما أن من أفضل مصاديق الإيجاز قوله سلام الله عليه حينما سئل عن التوحيد والعدل فأجاب :
" التَوْحِيدُ أنْ لا تَتَوَهَّمَهُ والعَدْلُ أنْ لا تَتَّهِمَهُ
وقال عليه السلام في باب التنفير من الدنيا :
" إِذَا كُنْتَ فِي إِدْبَار، وَالْمَوْتُ فِي إِقْبَال، فَمَا أسْرَعَ الْمُلْتَقَى .
وقال في باب القناعة :
" أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنى .
مستمعينا الأطايب !
من المعلوم أنّ الباب الأخير من كتاب نهج البلاغة يحفل بالكثير من قصار الكلم والحكم التي تعتبر آيات بيانيّة رائعة لتجلّي الإيجاز بجماله وروعته الفنّية ، ولذلك فقد طلبنا من خبيرنا علي الهاتف الأستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من ايران أن يستعرض لنا بعضاً من تلك الآيات في قصار كلمه عليه السلام وأن يشير إلي مواطن الإيجاز بها ، فتفضّل قائلاً :
نقشبندي: طبعاً قبل الكلمات القصار او نأخذ هذه الكلمة المعروفة عند الناس في خطبة الجهاد، يقول مولانا امير المؤمنين "ولكن لارأي لم لايطاع" او في موضع آخر يقول في وصيته للإمام الحسن "كم من عقل أسير تحت هواء امير". مع اختصار هذا الكلام ومع أنه لايتعدى جملة واحدة إلا أنه يتضمن معاني جداً رائعة. كما نعرف الآن في حكومات تكنوقراط نرى عقليات ضخمة وحجج في مختصات من العلوم تحت هوى امير او وزير لايعرف شيئاً عن وزارته وعن وظائف وزارته وعن عمق اختصاصات وزارته، هؤلاء يقعون أسراء تحت هواء هذا الأمير. او في مكان آخر من الكلمات القصار مع هذه الروعة من الجملة مثلاً في التوحيد يقول مولانا "التوحيد أن لاتتوهمه والعدل أن لاتتهمه" ذهبت بعض الفرق الاسلامية الى التعددية في صفات الله بينما مذهب أهل البيت يذهل الى أن جامع الصفات هو عين ذاته يعني عينية الذات والصفات ونسبة كل فعل حسن الى الله سبحانه وتعالى لكي يتبين ميزان التنزيه وعدم التشبيه المرفوضتان من قبل العقائد الاسلامية في مسئلة الصفات ومسئلة معرفة الذات. هذه المسئلة مع إختصارها تتضمن معاني جميلة جداً وهو ليس غريباً لأن هو الذي الذي تربى في أحضان الرسول صلى الله عليه وآله وهو المجسد للقرآن الكريم والمعصوم وكما قال الرسول الأعظم "علي مع القرآن الكريم". نذهب الى القرآن الكريم قيل "يا أرض إبلعي ماءك وياسماء أقلعي" "وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجود وقيل بعداً للقوم الظالمين". أختصرت جملة كبيرة وكتاب كامل عن احداث في جملة غاية في الدقة وغاية في الإيجاز تعبر عن حادثة طوفان كبيرة تتداول الى يومنا هذا. أسلوب القرآن الكريم من موعظي او تربوي او للعبرة، نرى في سورة يوسف، نرى نفس الموضوع في التوراة في سفر التكوين على ماأذكر إلا أن العبرة في سورة يوسف وحالة اللفظ وما أستخدم فيه من مواعظ اخلاقية وعبر انسانية وتاريخية وحالات النفس الانسانية والغرائز الحيوانية التي قد تستخدم والتي نهى الله عنها في سورة يوسف لانرى لها أثراً في سفر التكوين في التوراة.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان لفضيلة الاستاذ علي نقشبندي الباحث الاسلامي من ايران.
أعزّتنا المستمعين !
ومن أنواع الإيجاز - كما مرّ - مايعرف بإيجاز الحذف الذي يكون عبر حذف كلمة أو كلمات من الكلام لأسباب منها مجرّد الاختصار والاحتراز من العبث لدلالة سياق الكلام علي ما حُذِف ، من مثل ما قام به أمير المؤمنين عليه السلام حينما حذف من كلامه المسندَ إليه في قوله :
" مِسْكِينٌ اِبْنُ آدَمَ مَكْتُومُ اَلْأَجَلِ مَكْنُونُ اَلْعِلَلِ مَحْفُوظُ اَلْعَمَلِ تُؤْلِمُهُ اَلْبَقَّةُ وَ تَقْتُلُهُ اَلشَّرْقَةُ وَ تُنْتِنُهُ اَلْعَرْقَةُ .
وقال سلام الله عليه في التحذير :
" فإيّاكم و التلوّنَ فى دين الله .
فقد استخدم هنا أسلوب التحذير الذي يعدّ من أساليب إيجاز الحذف في اللغة ، العربيّة حيث تمّ حذف فعل تقديره " أحذّركم .
ويعتبر أسلوب الإغراء من أساليب الإيجاز الأخري في الأخري ، وهو كثير في نهج البلاغة ، ومنه قوله سلام الله عليه :
" اَلْعَمَلَ اَلْعَمَلَ ثُمَّ اَلنِّهَايَةَ اَلنِّهَايَةَ وَ اَلاِسْتِقَامَةَ اَلاِسْتِقَامَةَ ثُمَّ اَلصَّبْرَ اَلصَّبْرَ وَ اَلْوَرَعَ اَلْوَرَعَ .
وفي القول التالي نري اجتماع كلّ من الإغراء والتحذير المقتضيين للحذف من الكلام :
" فالحذرَ الحذرَ ايها المستمع و الجدَّ الجدَّ ايها الغافل .
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
كلّ الشكر والتقدير علي حسن متابعتكم لنا ، وكونوا في انتظارنا عند تتمّة حديثنا حول مصاديق الإيجاز بأنواعه في كلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام عبر برنامجكم علي خطي النهج ، حتي ذلك الحين نستودعكم رعاية الله ، وإلي اللقاء .