أحبّتنا المستمعين الأكارم !
نحيّيكم أجمل تحيّة في هذا اللقاء الجديد الذي يجمعنا بكم عبر محطّات برنامجكم الأسبوعيّ علي خطي النهج الذي سنخصّص حلقته لهذا الأسبوع والأسبوع المقبل بإذن الله لتتبّع ما يسمّي في علم البلاغة بالمجاز والكنايـة في نهج البلاغة ، وتسليط الأضواء علي المظاهر والجوانب الأدبيّة والبلاغيّة فيه ، ندعوكم للمتابعـة ....
مستمعينا الأكارم !
المجاز في اللغة هو التجاوز والتعدّي. وفي الاصطلاح اللغوي هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى تدلّ عليه قرينة. أي إن اللفظ يُقصد به غير معناه الحرفي بل معنى له علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفي. والمجاز من الوسائل البلاغية التي تكثر في كلام الناس بشكل عام ، البليغ منهم وغيرهم .
والمجاز نوعان ، مجاز لغويّ: وهو استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقةٍ ما بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي .و مجاز عقليّ: وهو استعمال اللفظ بأن يُسند إلى غير من هو له نحو شفى الطبيبُ المريضَ بسبب علاقة ما، فإن الشفاء من الله وإسناد الشفاء إلى الطبيب مجاز بسبب وجود علاقة بين الطبيب والشفاء وإن لم يشف بنفسه.
مستمعينا الأعزّة !
ندعوكم للاستماع معنا إلي الحديث التالي الذي أدلي به خبير البرنامج علي الهاتف الدكتورة دلال عباس الأستاذة في الحضارة الاسلامية من لبنان حول المجاز والكناية ولماذا يلجأ الأدباء والبلغاء عادة إلي مثل هذا الأسلوب مفضّلين إيّاه علي أسلوب التصريح ؟
عباس: بسم الله الرحمن الرحيم في الحقيقة هذه ميزة من ميزات اللغة العربية، استخدام المجاز. لهذا يلجأ الأدباء الى المجاز من استخدام الحقيقة من المعنى الحقيقي فيكون الأدب أدباً فإذا عدنا الى النص القرآني او اذا عدنا الى الشعر الجاهلي يكون النص أدبياً ولايمكن أن تكتمل عناصره الأدبية إلا اذا إعتمد على المحسنات البيانية ومن المحسنات البيانية المجاز. مامعنى المجاز؟ أن يستخدم الأديب، الشاعر، يستخدم الألفاظ في غير ما وضعت له في الأصل. يعني القول "إشتعل الرأس شيباً" يعني هل يكون الاشتعال للرأس؟ هل يكون الاشتعال للشيب؟ بالنسبة للسامع سيعرف أن الرأس صار كله شيباً وكأن النار قد إستولت فيه. ايضاً استخدام الشيء في الليل واستخدام الليل كأنه الشيب وهذا هو المقصود، استخدام الثعلب المحتال للبشر، الخنفساء للرائحة الكريهة، الأسد للانسان الشجاع. هذا فيما يتعلق بالمجاز أما الكناية فهي أرقى من المجاز لأن المجاز يستخدم الاستعارة مثلاً، الكناية هي أرقى وايضاً هي مجاز ولكن هي جمل ذات معنيين، عملياً الاستعارة أقرب الى السامع لأنها تشبيه بليغ وأرقى من التشبيه البليغ بقليل إنما الكناية أرقى بمعنى أن الجملة يكون لها معنايين، معنى ظاهر ليس هو المقصود ومعنى خفي هو المقصود. حينما يقول مثلاً الشاعر قريتي مسرح الاحلام. مامعنى مسرح الاحلام؟ مسرح الاحلام هو المكان الذي يحلم العودة اليه او يقول شاعر قريته او مدينته هي تحت الاحتلال فيقول قريتي المأسورة، هل تكون القرية أسيرة؟ القرية هي كناية عن أنها تحت الاحتلال. هذا النوع من التعبيرات التي يتصور بها الانسان وأحياناً لايريد الانسان أن يصرح ماذا يريد، يريد أن يفهم المعنى بشكل غير مباشر. يمكن أن تكون الكناية تعريضاً بالقول او مدحاً لهم كأن يقول الشاعر مثلاً ألستم خير من ركب المطايا بمعنى أنهم أفضل من ركب الخيل.
المحاورة: مستميعنا الأفاضل نشكر خبيرة البرنامج الدكتور دلال عباس الأستاذة في الحضارة الاسلامية من لبنان لإتاحتها لنا هذه الفرصة.
مستمعينا الأفاضل !
أمثلة استعمال المجاز بالمعني الذي ذكرناه كثيرة في نهج البلاغة ، ومنها قوله عليه السلام في الخطبة ۲۳۹ في وصف أهل بيت النبوّة (ع) ودورهم في نشر الوعي والقضاء علي الجهل :
هم عيشُ العلم و موتُ الجهل .
فهم عليهم السلام بمثابة الحياة للعلم بسبب الشبه بين العلم والكائن الحيّ في وجوده وانتفاع الآخرين منه ، فإطلاق لفظ العيش علي آل محمّد (ص) هو من باب الإطلاق المجازيّ للسبب علي المسبّب لأنهم سبب حياة العلم ، وهكذا الحال بالنسبة إلي تعبير موت الجهل بمعني أنّهم السبب في موت الجهل .
ومن النماذج الأخري لاستخدام المجاز في كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه ، قوله في الخطبة الثانية والثمانين بعد المائة :
" فاتقوا اللهَ الذى انتم بعينِه و نواصيكم بيدِه .
فلفظ العين في القول السابق مجاز دالّ علي العلم لأنّ العين تستلزم العلم والإحاطة بالشيء ، والنواصي تعني الجباه وتعبير نواصيكم بأيديه يعني إحاطتهم به وقدرته عليهم وهكذا الحال بالنسبة إلي إطلاق اليد علي القدرة فإنه من باب المجاز .
وقال سلام الله عليه في الخطبة الرابعة والستّين في وصف الذات الإلهيّة المقدّسة :
" و كلُّ بصير غيره يعمى عن خفيّ الالوان و لطيف الاجسام .
فاستعمال العمي هنا هو مجاز لأنه إمّا أن يدلّ علي مطلق عدم الإبصار أو علي الإبصار للشخص الذي لايمتلك القدرة علي الإبصار والرؤية ، وأيّ من الاعتبارين السابقين لا يتوفّر لبصير سوي الله ولذلك فإنّ عدم إدراك الألوان الخفيّة والأجسام اللطيفة ليس عميً حقيقيّاً . ولأنّ العمي هو من أسباب عدم الرؤية فإنّ هذا المجاز هو من باب إطلاق اسم السبب علي المسبّب .
مستمعينا الأطايب !
المزيد من الأمثلة والنماذج علي استخدام المجاز في نهج البلاغة ووجوه كونها مجازاً ستوردها لنا خبيرة البرنامج الدكتورة دلال عباس الأستاذة في الحضارة الاسلامية من لبنان، نستمع معاً الى حديثها:
عباس: بالنسبة الى نهج البلاغة اذا أخذنا كل كلام الامام عليه السلام هو كلام ادبي بليغ يعني من دون إستثناء، حتى الخطب السياسية والخطب الدينية كلها ذات وجوه بلاغية، يمكن أن نجد فيها كل انواع البلاغة حتى من الحكم. اذن حينما يقول الامام عليه السلام "الولايات مضامين الرجال" ما معنى ذلك؟ هل يدعو الناس بصورة صريحة الى الإنخراط في المجتمع وعدم التصدي للقيادة في الحكم، اذا كان هناك من ضرورة في مرحلة من المراحل في وقت معين لايجوز أن يمتنع الانسان عن القيام بواجبه الاجتماعي او واجبه السياسي لذلك في هذه العبارة القصيرة حينما يقول عليع السلام "الولايات مضامين الرجال" هي دعوة صريحة للناس للإنخراط في المجتمع وعدم التصدي للقيادة والحكم. حين يقول مثلاً في كتابه الى مالك الأشتر حينما يبعثه الى مصر بدأ بها من عبد الله امير المؤمنين الى الحارث الأشتر حين ولاه مصر "جباية خراجها، اعدادالبلاد وإصلاح أهلها وعمارة بلادهم" مامعنى ذلك؟ هذه العبارات الأربع تلخص كل ما يمكن أن يقود به الحاكم في أي زمان ومكان، أولاً جباية الخراج، مامعنى جباية الخراج؟ قديماً وحديثاً كناية عن تأمين ميزانية الدولة. اعداد اهلها ايضاً كلمة مهمة، إعداد الجيش من العداء للحفاظ على حدود البلاد. إصلاح أهلها بمعنى تدبير شؤونهم في كل ماله علاقة بحياتهم الدنيوية. ايضاً كناية عن رعاية الحاكم للناس وتأمين مصالحهم. عمارة البلاد كناية عن دور الحكومة بعد أن تؤمن ميزانية الدولة أن تعمل على عمارة البلاد، عمارة البلاد تتضمن كل ما له علاقة بتأمين البنية التحتية للناس، عمارة الأرض، عمارة البلاد، الاهتمام بالناس وعمارة البلاد وإستصلاح الأرض وحث الناس على البناء. حينما يقول له يجب عليه أن يكسر نفسه عن الشهوات. ما معنى أن يكسر نفسه من الشهوات؟ ايضاً هذه كناية عن الحاكم الذي يجب أن يكون مثالاً يهتدى ولايتبع شهواته، طبعا كل حاكم في كل عصر وزمان.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان لفضيلة الدكتورة دلال عباس الاستاذة في الحضارة الاسلامية كانت عبر الهاتف من لبنان معنا في حلقة هذا اليوم.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
وتوصيفات النبيّ (ص) كثيرة في النهج ، حيث عمد أمير المؤمنين عليه السلام في الكثير من المواضع إلي وصف النبيّ (ص) بأساليب مختلفة ، ومنها قوله (ع) في الخطبة التاسعة والخمسين بعد المائة :
"فإن الله جعل محمداً صلى الله عليه و آله و سلّم عِلماً للساعة و مبشّراً بالجنّة .
وقد جاءت كلمة العِلم في هذا القول بفتح العين واللام أيضاً ، وفي الحالة الأولي يكون المعني أنّ الله تعالي جعل في بعثة النبيّ (ص) سبباً للعِلم واليقين بقيام الساعة ، وفي الحالة الثانية أي العَلَم جعل في رسالته دلالة وآية علي يوم القيامة ، وفي كلتا الحالتين هنالك مجاز استخدمه أمير المؤمنين (ع) في التعبير عن شخصيّة النبيّ (ص) ووصفها وهو من باب إطلاق اسم المسبّب علي سببه .
ويقول عليه السلام في وصف الموت الذي يدور الحديث عنه كثيراً في نهج البلاغة :
" و الأجل مَساقُ النفس و الهربُ منه موافاتُه .
إنّه تعبير في غاية اللطافة لأنّ الشخص الذي يفرّ من الموت بذرائع وحيل مختلفة ، فإنّ هذه الذرائع والحيل نفسها تستلزم استهلاك الأوقات و مرور الزمن و من المعلوم أنّ انقضاء اللحظات يستلزم هو أيضاً لقاءَ الموت وموافاتَه والوصول إليه ، وعلي هذا فإنّ إطلاق كلمة الموافاة هي من باب إطلاق اللازم علي ملزومه .
مستمعينا الأفاضل !
الحلقة القادمة من برنامجكم علي خطي النهج سنخصّصها لاستعراض وتحليل بعض من مواطن استخدام الكناية في نهج البلاغة ، باعتبارها أسلوباً من أساليب التعبير البلاغي المؤثّر الذي يغني عن التصريح بالمعني ، حتي ذلك الحين نترككم في رعاية الله شاكرين لكم حسن إصغائكم ومتابعتكم .