مستمعينا الأفاضل في كلّ مكان !
سلام من الله عليكم ورحمة منه وبركات في هذا اللقاء الذي يتجدّد معكم عبر محطّة أخري من برنامجكم علي خطي النهج ، والتي سنواصل الحديث فيها من خلال الاستعانة بالخبراء عن براعة الاستعارة ولمساتها الجماليّة في نهج البلاغة ، تابعونا ...
مستمعينا الأحبّة !
من المعلوم أنّ الاستعارة هي في الأصل تشبيه حذف فيه المشبّه به . وبلاغة الاستعارة تكمن في الإيجاز و الإبداع و التوسّع في توظيف اللغة والدلالات و حاجتها إلي التأمّل والربط فيها بين الظواهر والأشياء التي تبدو في الظاهر متناقضة ومتضادّة و ضخّ الحركة والحيويّة في التعبير الأدبي .
وقد توافرت كلّ تلك الخصائص والصفات في نهج البلاغة كأحسن مايكون التوفّر ؛ فلقد تمّ في استعاراته توظيفُ ظواهر الطبيعة الحيّة والمتحرّكة في خلق الصور وإبداعها اعتباراً من الإنسان و الحيوانات من مثل الجياد و الجِمال وحتي الحيوانات المفترسة والكائنات الحيّة الأخري ، وعلي سبيل المثال فنحن نلاحظ في إحدي خطب نهج البلاغة أنّ الإنسان المحتال و المخادع قد استعيرت صورته لوصف الدنيا والتحذير من زخارفها ومظاهرها الكاذبة الخدّاعة وذلك في قوله سلام الله عليه :
" لا تشيموا بارقَها ولا تسمعوا ناطقَها ولا تجيبوا ناعقَها ولا تستضيئوا بإشراقِها ولا تُفتَنوا بأغلاقِها ( الخطبة / ۱۹۱ ) .
وتكاد الخطبة الرابعة بعد المائتين أن تشتمل بأكملها علي صور استعاريّة عن العلاقة بين الموت والحياة ، وقد تجسّد في هذه الصور الخوف والرعب من الموت علي شكل حيوان مفترس فتّاك ؛ حيوان وقع الإنسان بين مخالبه ولا سبيل للفرار منه . ومن جهة أخري ، فإن زمان الرحيل قد أزف وهنالك طريق طويل وصعب مستصعب يمتدّ أمام الإنسان ، ولا سبيل أمامه لاجتيازه بسلام سوي أن يتزوّد بالتقوي وأن يقطع علائقه بالدنيا ، كما يحدّثنا أمير المؤمنين عن ذلك في قوله :
" تجهّزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل وأقلّوا العُرجة علي الدنيا وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد فإنّ أمامكم عقبة كؤوداً ومنازل مخوفةً مهولة لابدّ من الورود عليها والوقوفِ عندها . واعلموا أنّ مَلاحظَ المنيّة نحوكم دانيةٌ بمخالبِها وكأنّكم بمخالبِها وقد نشبت فيكم وقد دهمتكم فيها مُفظعاتُ الأمور ومعضلات المحذور . فاقطعوا علائقَ الدنيا واستظهروا بزاد التقوي .
وفي الخطبة الثامنة والثلاثين بعد المائة من نهج البلاغة جسّد لنا أمير المؤمنين سلام الله عليه الحرب في صورة حيوان مفترس ضار مرّة وفي صورة ناقة مدرار يبدو لبنها باديء ذي بدء عذباً حلواً سائغاً شرابه و لكنّ شاربه سرعان ما يشعر فيما بعد بمرارته بل وبأثره السامّ ، يقول عليه السلام في التحذير من الحرب وبيان عواقبها الوخيمة :
" حتّي تقومَ الحربُ بكم علي ساقٍ بادياً نواجذُها ، مملوءةً أخلافُها ، حُلواً رضاعُها ، علقماً عاقبتُها ...
أحبّتنا المستمعين الأكارم !
حول توظيف مظاهر الطبيعة في الصور الاستعاريّة التي جاءت في نهج البلاغة وإيراد بعض الأمثلة والنماذج منها ، طرحنا سؤالاً علي خبير البرنامج علي الهاتف الأستاذ الشيخ جعفر عساف الباحث الاسلامي من لبنان ، فتفضّل بالإجابة قائلاً :
عساف: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
نحن كما نعلم أن امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي يزخر بهذه العلوم المتنوعة والكثيرة فلابد أنه يملك ذاكرة قوية وقدرة هائلة على إختزان صور الناس والطبيعة أخبار البشر وأوصاف الأشياء. وكانت دقة ملاحظته تجعله محيطاً إحاطة مدهشة بسمات الشيء الباطنية وايضاً الظاهرية. لاشك أننا نجد علياً عليه السلام كما هو كلماته وخطبه في نهج البلاغة أنه كان يتحدث عن الطبيعة بمضامينها الحية ومايتخلل هذه الطبيعة من قواعد ونواميس حياتية ومايحكمها من ارادة خفية دقيقة التنظيم والصنع، ايضاً نجد علياً عليه السلام كانت قد تنوعت خطبه حول الزرع والحيوانات المختلفة كالخفاش والطاووس والنملة، في حديث وخطبة له يتحدث فيها عن الطاووس، يقول امير المؤمنين سلام الله عليه "يمشي مشي المرح المختال ويتصفح ذنبه وجناحيه فيقهقه ضاحكاً لجمال سرباله فإذا رمى ببصره الى قوائمه زعق معولاً وله في موقع العرف قنزعة خضراء موشاة ومخرج عنقه". ونختم بما ذكره امير المؤمنين علي عليه السلام حول تكوين الجبال، يقول "وجبل جلابيدها ومشود متونها وأطوادها وأكواها في مراسيها وألزمها قرارتها فمضت رؤوسها في الهواء ورست أصولها في الماء فأمهد جبالها عن سهولها وأساخ قواعدها في متون أخفارها ومواضع أنصابها فأشهق تلالها وأطال انشازها وجعلها للأرض عماداً". هكذا نجد أن امير المؤمنين علي عليه السلام له باع طويل، ذاكرة قوية، الله تبارك وتعالى أنعم عليه بنفس وذهن كبيرة استطاع من خلالها أن يدخل الى كل هذه الأشياء وطبعاً الوصف للأشياء الطبيعية او غير الطبيعية لايمكن أن يتيسر للانسان إلا اذا كان محيطاً بها وعارفاً بها وهذا ماكان فعلاً من امير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان لفضيلة الشيخ جعفر عساف الباحث الاسلامي من لبنان.
مستمعينا الأكارم !
وفضلاً عن الاستعانة بمظاهر الطبيعة وموجوداتها في رسم الصور والاستعارات ، نلاحظ توظيف أمير البلغاء عليه السلام لمظهر آخر من مظاهر الطبيعة ألا وهو الألوان من أجل تقديم صور استعاريّة زاهية بالألوان التي تحفل بها الطبيعة ، والإمام (ع) خبير ضليع في مزج الألوان واستخدامها في صوره الاستعاريّة بأشكال وأساليب مختلفة من مثل اللون الأخضر والأصفر والأحمر والأبيض والأسود وغيرها ؛ وعلي سبيل المثال فإنّ اللون الأخضر يدلّ علي الكثرة والوفور والرزق والخصب ، بل أنّ هذا اللون في الفكر الدينيّ هو رمز للخير والبركة ، قال تعالي في محكم كتابه الكريم :
" ألم ترَ أنّ اللهَ أنزلَ من السماءِ ماءً فتصبح الأرضُ مخضرَّةً ( الحج/ ٦۳ ) .
ونحن نري الإمام عليّاً (ع) يوظّف هذا اللون لمرّات عديدة من مثل وصفه لجمال الطاووس في قوله :
" ... لَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ ... يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ، وَشِدَّةِ بَرِيقِهِ، أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ ... ، علماً أنّ القُنزُعَة هي الخَصْلة من الشعر تُتْرَك على رأس الصبي.
وقد يدلّ اللون الأخضر في استخدامات أخري له علي النماء والحيويّة والانتشار ، كما نلاحظ في قوله سلام الله عليه :
" وَ لَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَ لَا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ...
فاخضرار شجرة الدين في هذا التعبير يمثّل صورة استعاريّة متحرّكة وناطقة لحياة الإيمان وبقائه ودوامه وقوّته في القلوب لأن النماء هو في النهاية قوّة للشيء واستحكام له .
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
وفيما يتعلق بعنصر الألوان في الصور البلاغية التي تطالعنا في نهج البلاغة طرحنا سؤالاً آخر على ضيف البرنامج على الهاتف سماحة الشيخ جعفر عساف الباحث الاسلامي من لبنان رجونا فيه منه أن يزودنا بالمزيد من الأمثلة والنماذج على هذا النوع من الصور الاستعارية فتفضل مشكوراً:
عساف: طبعاً النظر في خطب امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام نجد أن علياً بن أبي طالب كان له خيال طويل، يتضح ذلك من خلال كلامه في نهج البلاغة المملوء بالكثير من الرسوم المخطوطة بالألوان وشدة واقعيتها وارتفاع مجالها وامتداد أجنحتها وهذا ما نلمسه في كلام امير المؤمنين عليه السلام عندما يخاطب أهل البصرة وكان بنفسه تألم منهم بعد موقعة الجمل قائلاً "لتغرفتن بلدتكم حتى كأنني انظر الى مسجدها كجأجأ طير في لجة بحر". هكذا نجد هذا التشبيه وهذا اللون الساحر في كلام علي بن أبي طالب عليه السلام عندما يقول "فتن كقطع الليل المظلم". وايضاً نذكر بعذ كلمات امير المؤمنين صلوات الله عليه عندما يتحدث عن مكانته فيقول صلوات الله عليه "وإنما أنا فقطب الراحة تدور عليّ وأنا بمكاني" وهكذا هناك الكثير من الكلمات التي يمكن أن نجد فيها كلام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي ملأ بالكثير من الألوان البلاغية والتشبيهية التي قلّ أن يكون لها شبيه في كلام العرب. وهو الذي كان يقول ايضاً عن بعضهم "إنما انت كالطاعن عن نفسه ليقتل رجسه". وهكذا ايضاً امير المؤمنين صلوات الله عليه، نختم بهذا الكلام الذي كان يتكلم فيه عن الكذب يقول "إياك ومسابقة الكذاب فإنه كالسراب يقرب عليك البعيد ويبعد عنك القريب". والحمد لله رب العالمين.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان لفضيلة الشيخ جعفر عساف الباحث الاسلامي من لبنان.
مستمعينا الأفاضل !
ومن بين الألوان الأخري التي استخدمت علي نطاق واسع في النهج وحملت الكثير من الدلالات ، اللونُ الأصفر والذي دلّ في الغالب علي معان من مثل التعب والضعف والحزن كقوله عليه السلام في خطبة المتّقين :
" صفرُ الوجوهِ من السّهر ، علي وجوهِهم غَبرةُ الخاشعين .
ويشير هذا اللون في خطبة أخري إلي الذبول والقرب من الفناء ، كتشبيهه عليه السلام للدنيا بشجرة اصفرّت أوراقها وفقدت نضارتَها وطرواتَها وحياتَها بالتالي ، فلنستمع معاً :
" والدنيا كاسفةُ النورِ ، ظاهرةُ الغرور ، علي حين اصفرارٍ من ورقها ، وأَياسٍ من ثمرِها ، واغوِرارٍ من مائها ... .
مستمعينا الأطايب !
تتبُّعنا للصور الاستعاريّة واستخداماتها في نهج البلاغة سيتواصل بإذن الله في لقائنا القادم عبر برنامجكم علي خطي النهج ، حتّي ذلك الحين تفضّلوا بقبول خالص شكرنا علي طيب متابعتكم لنا ، وكونوا في انتظارنا .