البث المباشر

فن الاستعارة وجمالياتها في نهج البلاغة- القسم ۲

الثلاثاء 24 سبتمبر 2019 - 15:40 بتوقيت طهران

إذاعة طهران- على خطى النهج: الحلقة 7

أحبّتنا المستمعين الأكارم !
نجدّد اللقاء بحضراتكم في المحطّة الأخري من برنامجكم علي خطي النهج والتي سنواصل الحديث فيه من خلال الاستعانة بالخبراء في هذا المجال عن جماليّات توظيف الاستعارة في نهج البلاغة ، كونوا بصحبتنا ...
مستمعينا الأعزّة !
تتضمّن الاستعارة في جانب من جوانبها صوراً حسية استعارية، تتمتّع بإمكانية جمالية لا حدود لتجليّاتها المظهرية واضماراتها الدلالية- كقوله عليه السلام وهو يتحدث عن السحب: "الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ والْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ والفتيق: تعني المفتوق، والدفيق هو المدفوق أي المتدفّق .
وقد تكون الصورة صريحة أو قد تأتي ضمنيّة بين تعبيرين أو أكثر- بحيث تضفي على أحد التعابير أو مجموعة من التعبيرات لوناً من العاطفة ، كقوله عليه السلام في الاستسقاء: "اللهمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا واغْبَرَّتْ أَرْضُنَا وهَامَتْ دَوَابُّنَا وتَحَيَّرَتْ فِي مَرَابِضِهَا وعَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلادِهَا.
وانصاحت : تعني جفّت ويبست من الجدب ، وليس من المناسب تفسير انصاحت بـ (انشقت) لأنها تعني الانشقاق مع صدور الصوت الا ان يراد المبالغة في الحرارة التي اشتدت لتأخُر المطر حتي تفطّرت الأرض ، وحتى اتّقد باطنها ناراً، وتنفّست في الجبال فانشقّت..
مثل قوله عليه السلام: "أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ فِي الْجَفِيرِ الْفَارِغِ وإِنَّمَا أَنَا قُطْبُ الرَّحَى تَدُورُ عَلَيَّ وأَنَا بِمَكَانِي فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ مَدَارُهَا واضْطَرَبَ ثِفَالُهَا والقِدح بالكسر: السهم قبل أن يُراش، والجفير: الكنانة توضع فيها السهام- وإنما خص القدح لانه يكون أشد قلقلة من السهم المراش حيث إن حد الريش قد يمنعه القلقلةُ أو يخففها- واستمار: تردد واضطراب الثفال: الحجر الأسفل من الرحى.
فنحن نطالع في هذا النصّ صوراً استعاريّة متتاليّة المستعار له فيها هو الإمام عليّ (ع) نفسه دوماً ؛ فهو كالسهم غير المراش في الكنانة الفارغة ، وهو القطب والمحور الذي تدور حوله الرّحي ، وتكتسب منه توازنَها ، فإن أُخرِج منها فقد كلّ شيء توازنَه ، وتخبّطت تلكم الرّحي في دورانها بل لربّما خرجت من مدارها !
مستمعينا الأفاضل !
حول الصورة الاستعاريّة الفنيّة وجماليّة توظيفها في كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، كان لنا اتصال هاتفيّ بـسماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من قم المقدسة الذي أدلي بحديث في هذا المجال نسترعي انتباهكم إليه :
الكشميري: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين
لايستطيع أي متكلم ولايتمكن أي كاتب او متحدث أن يصف ما تحلى به نطق الامام امير المؤمنين سلام الله عليه من متانة وحكمة وبلاغة. كما يقول الأديب:
أيا موجب التاريخ نهلاً وعبرة ومنتهجاً في نهجه ليس يغتر
في الواقع هذه البلاغة وهذه الفصاحة حينما تصل الى نهج اللاغة وبيان الامام امير المؤمنين تقف حائرة صاغرة. بعد كلام القرآن الكريم، كلام المرتضى هو مرتضى الكلام كما يقال وكتب هذه الكلمة المرحوم الفراهيدي. الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه بإعتباره يعيش في ذلك المجتمع الذي تجلت حضارته بالبلاغة وبالفصاحة أعجزهم الامام امير المؤمنين ببياناته، عندما نتصفح نهج البلاغة بأقسامه الثلاثة سواء الخطب او الرسائل او الكلمات القصار نرى أن الامام سلام الله عليه يستعير الجمل الدقيقة من القرآن الكريم فيعكسها بعبارات يظهر فيها الابداع في المعنى وفي المحتوى. عندما يستعمل الامام مثلاً الشدة في قلب المعنى يقول عليه الصلاة والسلام "خير البلاد لك ماحملتك لا ما حمّلتك". وهناك الكثير من كلمات الامام في رسائل الامام وفي إستشهادات الامام نرى القرآن بكل معانيه ومضامينه موجوداً في صفحات نهج البلاغة. وخير ما نتحدث في هذا كلمة للكاتب اللبناني شكيب أرسلان الذي قال "بعد القرآن الكريم لانجد ناطقاً ولانجد بليغاً عاجز الفصحاء كالامام علي بن ابي طالب صلوات الله وسلامه عليه".
المحاورة: أحبتنا بعد هذا الحديث الذي تفضل به خبير البرنامج سماحة السيد حسن الكشميري على الهاتف مشكوراً ندعوكم لمتابعتنا ونحن نتجول بين رياض نهج البلاغة النضرة عبر ما تضمنته من صور استعارية.
أحبّتنا المستمعين !
من الواضح أنّ الصورة الفنية قد يرتفع مستوي العمق التأثيري فيها ، ليتجاوز حدود الاستعارة والتشبيه إلى التجسيد والتشخيص والوصف.. كقوله عليه السلام في إحدى خطبه متحدّثاً عن الدهر في صور استعاريّة متتابعة ومتزاحمة يأخذ بعضها ببعض ، كقوله مستعيراً صورة الرامي الماهر الذي لا يكاد ينجو أحد من سهامه الحاملة للموت الزؤام ، مقدّماً بذلك لنا صورة استعاريّة حسّية للدهر وقوانينه الصارمة التي لا يمكن لأحد الفرار منها ، ولاسبيل للنجاة من حتميّتها ، يقول سلام الله عليه :
"فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ لا تُخْطِئُ سِهَامُهُ ولا تُؤْسَى جِرَاحُهُ يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ والصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ والنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ آكِلٌ لايَشْبَعُ وشَارِبٌ لايَنْقَعُ.
ففي هذا التقرير الذي يقدّمه لنا إمام البلاغة وأمير البلغاء عليه السلام تتكاثف الصور الاستعاريّة وتتداخل وتتشعّب وتدخل في الكثير من الجزئيّات والتفاصيل، اعتباراً من تشبيه حوادث الدهر والزمان بالرامي الذي هو علي أهبة الاستعداد دوماً ( موتر قوسَه ) ، وهو إن رمي سهامه فإنّ سهامه هذه تحمل معه الموت الحتميّ وكأنّها منقوعة بالسمّ القاتل ، وسهامه هذه هي الموت بعينه الذي يرمي به الأحياء فإذا بهم ينخرطون في لحظة في سلك الأموات ، وإن شاءت الإرادة الإلهيّة أن لا تكون رمية الدهر رميةَ الموت ، رمي أصحّاءهم بالمرض والسقم ، و الناجين من سهامه هذه بألوان البلاء وضروب الهلاك ، وهذا هو ديدنه الدائم وكأنه آكل نهم لا سبيل للشبع إليه ومتعطّش يتّقد جوفه ناراً لا طريق لإطفائها !
المحاورة: أيها الكرام فلنستمع الآن الى حديث خبير البرنامج سماحة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المدسة على الهاتف ليسلط لنا الضوء على هذا النوع من الصور الاستعارية المتداخلة التي يحفل بها نهج البلاغة ونماذج من هذه الصور، فلنتابع معاً.
الكشميري: طبعاً النماذج كثيرة ومتعددة مثلاً حينما يتحدث الامام امير المؤمنين سلام الله عليه عن الفطرة الالهية او حينما يتحدث الامام امير المؤمنين عن بديع صنع الخالق فنرى الامام سلام الله عليه وهو يتحدث عن كيفية خلقة النملة ومحتوياتها وأجزاء بدنها. وفي كلام آخر له سلام الله عليه حينما يقف على وادي السلام وهو ينظر الى تلك المقبرة الواسعة فيلتفت يميناً وشمالاً وهو يخاطبهم ويسلم عليهم ثم الامام يستشهد يقول "أما النساء فقد زوجت وأما الأموال فقد قسمت وأما البيوت فقد سكنت، هذا خبر ما عندنا، فما عندكم؟". او مثلاً في كلمة اخرى في باب الموعظة ترى الامام يجسد فيها تلك المعاني التي ربما جمعتها مجموعة من الآيات في القرآن الكريم، يقول عليه الصلاة والسلام وهو نموذج رائع وقد وجدته عند أحد الأحبار وهو يعتز بهذه الكلمة وهذا البيان، يقول عليه الصلاة والسلام "ومن المحزن أن يجمع أحدكم ما لايأكل ويبني ما لايسكن ثم يرحل الى ربه صفر اليدين، فلامال نقل ولادار سكن". وهكذا حينما نأتي الى حديث الامام امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه عن الآخرة وعن ما يسبق الآخرة من أجواء يقول صلوات الله وسلامه عليه حينما يعظ هذا الانسان بعد أن يسبح "سبحانك اللهم خالقاً ومعبوداً خلقت داراً" يتكلم عن الآخرة "وجعلت فيها مأدبة ومطعماً ومشرباً وخدماً وقصوراً وأزواجاً وزروعاً واثماراً ثم أرسلت داعياً يدعو اليها" وهو النبي صلى الله عليه وآله "فلا الداعي اجابوا ولا الى ما رغبت اليه رغبوا ولا الى ما إجتنبت اليه إجتنبوا". ثم يعبر عن هذه الدنيا ومافيها من الزينة يقول "أقبلوا على جيفة قد إزدحموا على اكلها وأصطلحوا على حبها ومن عشق شيئاً أعشى بصره وأمرض قلبه وهو ينظر بعين غير صحيحة وبأذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه.
المحاورة: أيها الأحبة كونوا بإنتظارنا في محطتنا القادمة بإذن الله تعالى من برنامجكم على خطى النهج لنستكمل حديثنا حول براعة الاستعارة في نهج البلاغة وجمالية جوانبها الفنية وعمق وتأثيرها في نفس المتلقي وذهنه.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
ومصطلح الصورة من المصطلحات النقدية التي ليس لها جذور في النقد الأدبي العربي- وهناك فارق بين الصورة والبلاغة تتسنى في خباياها حقائق شعرية ينأى بها الزخرف الشعري كقوله عليه السلام: "فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ وعَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ ومخضته: حركته بشدة كما يمخض السقاء ما فيه من اللبن، ليستخرج زبده. والسقاء: جلد السخلة يجذع فيكون وعاء للبن والماء. وعصفت به الريح: إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كانت شديدة لعدم المانع، وهذه الريح عصفت بهذا الماء ذلك العصف الذي يكون لها.
إن تنوع مهام الصورة الفنية في بنى تقريرية لا تحتوي تشبيها أو مجازاً وهناك صور تشبيهية وهناك الرمز(الايقوني) وتعني صورة تدل على صورة مادية بينها علاقة التشبيه والمجاز- كقوله عليه السلام في الشهادتين: "...شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ وتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ لا يَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ ولا يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ عَنْهُ. وهناك صورة منه ترتكز على مفهوم الاستعارة- التي واكبت الاعتقاد إلى المجاز مثل قوله عليه السلام في إحدى خطبه، وهو يتحدث عن الملائكة: "مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ وأَسْتَارُ الْقُدْرَةِ فنجد أن الصورة الفنية موجودة في التراث لكنها لم تشخص كآليات نقد خاصة لذا يرى البعض ان لا صورة بعد التشبيه والمجاز.
مستمعينا الأكارم !
كونوا في انتظارنا عند محطّتنا القادمة من برنامجكم علي خطي النهج لنستكمل حديثنا حول براعة الاستعارة في نهج البلاغة و جماليّة جوانبها الفنّية وعمق تأثيرها في نفس المتلقّي وذهنه ، حتّي ذلك الحين تقبّلوا أطيب تحايانا ، وجزيلَ شكرنا علي حسن إصغائكم ومتابعتكم ، وفي أمان الله ...

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة