أحبّتنا المستمعين الأفاضل في كلّ مكان ، سلام من الله عليكم ورحمة منه وبركات ، وكلّ المراحب بكم في هذا اللقاء الجديد الذي يسرّنا أن يجمعنا بحضراتكم عبر ربوع نهج البلاغة المزدهية بكلّ ما هو جميل وبديع في عالم البلاغة والتعبير ، حيث سنخصّص هذه الحلقة وما بعدها للحديث عن فنّ الاستعارة وجماليّاتها في هذا الكتاب الخالد، تابعونـــا....
مستمعينا الأكارم !
قبل كلّ شيء لا بدّ وأن نتعرّف علي مفهوم الاستعارة في اللغة وفي علم البلاغة أو علم البيان الذي يعتبر فرعاً من فروع علم البلاغة ومن أكثر هذه الفروع دقّة وتشعّباً حيث تطرح فيه مباحث علي قدر كبير من الدقّة والتشعّب ، وفي بعض الأحيان يضطرّ المتخصّصون في هذا العلم للتطرّق إلي موضوعات ومباحث تتصل بالمنطق .
والاستعارة من الناحية اللغويّة وكما يدلّ لفظها هي طلب الشيء علي سبيل الاستدانة والتعهّد بإرجاعه إلي صاحبه . وهي في الاصطلاح لا تختلف كثيراً عن معناها اللغويّ فهي حسب مايقول علماء البلاغة والبيان استعمالُ اللفظُ في غير ما وضعَ له لعلاقةِ (المشابهةِ) بين المعنَى المنقولِ عنه والمعنِى المستعملِ فيهِ، مع (قرينةٍ) صارفةٍ عن إرادةِ المعنَى الأصليِّ،(والاستعارةُ) .
وبذلك فإنّ الاستعارة ليست إلا (تشبيهاً) مختصراً، لكنها أبلغُ منهُ كقول الله تعالي في محكم كتابه الكريم: " فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ {الكهف:۷۷} ، فإنه شبّه ميل الجدار للسقوط بالإرادة التي هي من صفات العقلاء، فاستعار لفظ الإرادة الذي هو من صفات العقلاء للجدار الذي هو جماد لا إرادة له للمشابهة بين الميلان للسقوط وبين مَن يريد ذلك من العقلاء.
وكما في قوله تعالى: " وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ {الشعراء:۸٤}، فقد وضع اللسانَ الذي يكونُ به القولُ موضعَ القول علي سبيل الاستعارة. وكما في قوله تعالى: " وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ {التكوير:۱۸}، فكأن نسيم الصباح وضوءه المنتشر نَفَسٌ يبعث الحياة في الكون من جديد، فالنفس بالنسبة للصبح استعارة وهو القرينة المانعة من إرادة المعني الأصليّ وهو النَفَس الذي هو من صفات الكائنات الحيّة .
وهكذا فإنّ كلَّ مَجازٍ يبنَى على التشبيهِ (يسمَّى استعارةً) ، ولابدَّ فيها من عدم ذكر وجهِ الشبهِ ، ولا أداة التشبيهِ ، بل ولابدَّ أيضاً من تناسي التشبيهِ الذي من أجله وقعتِ الاستعارةُ ، مع ادعاءِ أنَّ المشبَّهَ عينُ المشبَّهِ به. أو ادعاءِ أنَّ المشبَّه فردٌ من أفرادِ المشبَّهِ به .
وللاستعارةِ أجملُ وقعٍ في الكتابةٍ، لأنها تمنحُ الكلامَ قوةً، وتكسوهُ حسناً ورونقاً، وفيها ينطلق الخيال ويستعرض الأديب قدراته الفنّية في التعبير ، وكلّما كانت الاستعارة أكثر غرابة وخفاء ازدادت جمالاً وروعة وقوّة في التأثير .
مستمعينا الأكارم !
للاستعارة كما قرّر علماء البلاغة أركان وأنواع أوكلنا الحديث عنها وبيانها إلي خبير البرنامج علي الهاتف السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من قم المقدسة ، حيث أدلي لنا مشكوراً بالحديث التالي حول هذا الموضوع ، فلنستمع معاً : ....
الكشميري: الاستعارة هو عنوان لحالة يأخذ الانسان فيها، مرة تكون استعارة مادية يستعير حاجة ثم يعيدها الى صاحبها مثلاً كمن يستعير كتاباً مثلاً عندما يقول الأديب: ألا يامستعير الكتب دعني فإن إعارتي للكتب عار. فبين الأدباء وفي عالم الأدب اشتهر نوع من فنون الأدب ومن فنون البلاغة هو مسئلة الاستعارة في الأدب العربي في الشعر ولعله موجود حتى في غير الأدب العربي ولكن تظهر هنا براعة الشاعر وتعمقه البلاغي حينما يتناول الجملة من قصيدة اخرى، هذه تسمى استعارة. على سبيل المثال كشاهد في عام ۱۹٥٥ لما جاؤوا بأول باب ذهبية للامام علي ابن ابي طالب ونصبت في الأيوان وهي الباب الموجودة حالياً تبارى الأدباء بقصائد في هذه المناسبة او مقاطع أبيات، أحد الأدباء الذين ذكروا هذه الحادثة او نظموا فيها هو الخطيب الراكب آنذاك في النجف الأشرف هو الشيخ محمد علي اليعقوبي كبير الخطباء وشاعر ملهم فمن جملة ما قال، قال هذين البيتين وأخذ فيهما استعارة، هذه الاستعارة أعطت عطراً خاصاً لهاتين البيتين حينما قال:
اذا ما الدهر عفا كل باب فباب الله باق ليس يعفى
ولن يبقى مع التاريخ إلا علي الدر والذهب المصفى
هنا جاءت الاستعارة بشكل بلاغي جميل ونالت إعجاب المفكرين والحضار لأن البيت كما تعلم له صدر وله عجز، عجز البيت الثاني إستعاره المرحوم اليعقوبي من القصيدة المأثورة والمشهورة للعلامة إبن الفارض والتي نظمها في أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم وبالخصوص بالامام علي:
بآل محمد عرف الصواب وفي أبياتهم نزل الكتاب
الى أن يقول:
ولاسيما أبو حسن علي له في الدهر مرتبة تهاب
ثم يقول:
علي الدر والذهب المصفى وباقي الناس كلهم تراب
فالمرحوم اليعقوبي إستعار من قصيدة العلامة إبن الفارض هذا المقطع الذي هو هناك صدر في قصيدة إبن الفارض ولكن المرحوم اليعقوبي إستعاره فأكمل بيته وجعل الصدر من ذلك البيت عجزاً للبيت الثاني. حينما يقول:
اذا ماالدهر عفا كل باب فباب الله باقي ليس يعفى
ولن يبقى مع التاريخ إلا.. هنا الاستعارة على الدر والذهب المصفى.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان لضيف حلقتنا فضيلة السيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
مازلتم معنا عبر برنامجكم علي خطي النهج وحديثنا يدور حول فنّ الاستعارة وجماليّاتها في نهج البلاغة الذي يحفل من أوّله إلي آخره بهذا النوع من التشبيه البليغ ، من مثل قوله عليه السلام في الخطبة الأولي من النهج والتي يتحدّث فيه عن الآيات المبثوثة في الكون والدالّة علي وجود الله وقدرته وعظمته :
"فَطَرَ الخلائقَ بقدرتِه و نشرَ الرّياحَ برحمتِه
فقد استعمل (ع) تعبير الفَطرْ الذي يعني الشقّ طولاً والذي يستخدم في العادة للجمادات لعمليّة الخلق والإبداع والإيجاد علي سبيل الاستعارة ، وهو تعبير تكرّر استعماله في القرآن الكريم للتعبير عن الخلق والإيجاد في مواضع من مثل: "الحمدُ للهِ فاطرِ السماوات والأرضِ ،وقوله علي لسان إبراهيم (ع) : "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ .
وقال سلام الله عليه في وصف الخوارج والمنافقين مستخدماً في قوله القصير هذا ثلاث استعارات متتالية يجسّد لنا من خلالها مدي الانحراف والضلال الذي بلغه أولئك الفاسقون الخارجون عن طاعة الله :
"زرعوا الفجورَ و سقوهُ الغرورَ و حصدوا الثّبور .
فقد استعار هنا سلام الله عليه الزرع للفجور فكأنّه زرع بل هو الزرع الذي ينمو ويكبر ، واستعار السقيا بالماء للغرور فكأنّ الغرور هذا العامل الرئيس الذي يعمل علي تنمية ذلك الفجور واستفحاله ، واستعار الحصادَ للثبور وهو الشرّ والهلاك الذي سيتمخّض عنه عملهم ذاك فكأنّهم يحصدون ثمار انحرافهم شرّاً وهلاكاً وسوء عاقبة .
سيورد لنا خبيرنا علي الهاتف سماحة السيد حسن الكشميري المزيد من نماذج الاستعارة وأمثلتها في نهج البلاغة من خلال تحليلها وتسليط الضوء علي الجانب الجمالي فيها ، فلنستمع معاً إلي حديث ضيفنا علي الهاتف :
الكشميري: طبعاً هنا الحديث عن نهج البلاغة أكثر من خمسين مورداً وربما أكثر بكثير، تناولها الامام امير المؤمنين صلوات الله عليه إما من أجل أن يوضح المعنى او يركز عليه بشكل خاص. مثلاً الامام امير المؤمنين يحاول أن يطرح المفاهيم القرآنية من خلال بلاغته الخاصة ومن خلال مايتمتع به الامام علي سلام الله عليه من الإبداع في المعنى والإبداع في اللفظ، مثلاً حينما يأتي القرآن يقول حول الفتنة "ولقد فتنا الذين من قبلهم" او القرآن يذكر الفتنة ويقول "الفتنة أشد من القتل". هنا يتبادر ذهن الانسان وهكذا يفهم الفتنة بأنها تمثل حركة صراع ويتقاتل الناس وفي هذا فتنة، بينما الامام امير المؤمنين سلام الله عليه يعبر عن الفتنة كما أشار اليها القرآن ولكن الامام يطرحها بهذا العنوان في اطار بلاغي جميل حينما يقول "إن الفتن اذا أقبلت شبهت واذا أدبرت نبهت، ينكرن مقبلات ويعرفن مدبرات" الامام صلوات الله وسلامه عليه يطرح المعنى بأن الفتنة تعرفها حينما تدخل نفسك بمتاهات، تدخل في امور لادور لك فيها من خلال ما تعيشه وهنا تقع في مشاكل وتقع في تساؤلات وإنتكاسات.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان للسيد حسن الكشميري الباحث الاسلامي من مدينة قم المقدسة.
مستمعينا الأطايب !
ومن لطائف قول الإمام عليّ عليه السلام في التحذير من الدنيا وعواقب الاغترار بها مستعيناً في هذا التحذير والإنذار أسلوب الاستعارة ، قوله :
"أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا أَلَا وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأَبِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
فهذا القول علي قصره مفعم بالاستعارات الفنيّة الجميلة التي تجسّد المعني في الذهن وترسم لنا مشاهد سريعة ومتحرّكة حافلة بالألوان عن الدنيا التي أدبرت سريعةً ، ولم يتبقّ منها سوي فترة قصيرة كأنها الصبابة أو بقيّة الماء في الإناء ، وأمّا الآخرة فقد أقبلت مسرعةً هي الأخري في قدومها فكأنّها إنسان يجري علي عجل باتجاه من يشتاق إليهم ويكنّ الحبّ لهم ، كما يجري الوالدان باتجاه أولادهما ، وعلي هذا فإنّ من الحريّ بالإنسان أن يتعلّق بالآخرة كما يتعلّق الولد بوالديه ، وأن يعلن براءته من الدنيا من خلال عدم الارتضاء لنفسه أن يكون بمثابة الابن لها .
إخوتنا ، أخواتنا المستعين والمستمعات !
انتظرونا في الحلقة القادمة من برنامجكم علي خطي النهج لنستكمل حديثنا عن بلاغة الاستعارة وروعتها في نهج البلاغة ، حتّي ذلك الحين تقبّلوا منّا خالص الحبّ وكلّ الشكر علي طيب متابعتكم لنا ، وفي أمان الله .