أحبّتنا المستمعين الأكارم !
تحيّة الحبّ والوفاء نبعثها إلي حضراتكم ونحن نجدّد اللقاء بكم بين الربوع الغنّاء والرياض النضرة لنهج البلاغة حيث روعة البيان ، وجماليّات التعبير ، والقمّة المعجِزة في الصورة والمضمون ، وحيث نعيش لدقائق في كلّ لقاء بين هذه الظلال الوارفة ، والنسائم البلاغيّة العليلة من خلال برنامجكم الأسبوعي المتجدّد علي خطي النهج ، فأهلاً ومرحباً بكم عندَ ما أعددناه لكم في هذا الأسبوع ...
مستمعينا الأفاضل !
عالم التشبيه والاستعارة عالم رحب واسع لاحدود له ولاقرار خاصة إذا كان أمامنا كتاب من مثل نهج البلاغة ؛ إنّه عالم لاتنتهي عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ولايملك الإنسان أمامه إلّا أن يخشع ويخضع ويهتف معلناً إعجابه بهذه القدرة الفذّة المتميّزة التي وهبها الله سبحانه وألهمها لأبي الأئمّة سلام الله عليه ، والتشبيهات التي نلفيها في كلامه تتردّد بين البسيطة المفردة ، والبليغة و المجملة ، وبين التصوير والتمثيل ، حتّي لتكاد تقترب من الإستعارة بمستواها الفني العالي والمرموق ، كما نلاحظ ذلك في قوله عليه السلام في ذمّ الجشع والطموع ودورهما في سلب الإنسان عقلَه بل وقتله حتّي لَيتحوّل الطمع إلي سيف بتّار قاتل يذبح العقلَ في لحظة الضعف البشريّ ليرديه قتيلاً :
"أَكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِع
ومن تشبيهاته الطريفة عليه السلام ذلك التشبيه المركّب الذي استخدمه للتحذير من اتخاذ الكذّاب الذي اعتاد الكذب وتزييف الواقع صديقاً ، حيث يقول سلام الله عليه في هذا الصدد :
"إِيَّـاكَ وَمُصَادَقَةَ الكَذَّابِ فَإِنَّهُ كاَلسَّرَّابِ يُقْرِبُ عَلَيْكَ البَعِيْدَ وَيُبْعِدُ عَلَيْكَ القَـرِيْبَ
والتشبيه هنا من نوع التشبيه المفرد المفصّل ، ومن نوع تشبيه الشيء الحسّي بحسّي آخر ، فالكذّاب هو المشبّه ، والسراب هو المشبّه به .
ومن المعلوم أنّ الكذب من الكبائر وأنّه مفتاح ومدخل للذنوب الأخري ، وهو مصدر كلّ المساويء والقبائح ، وقد حذّرنا الإمام عليه السلام في معرض ذمّ هذه السلوكيّة و التوصية بالإعراض عنها ، حذّرنا منها من خلال توظيف التصوير الحسّي ؛ فاعتبر شخصيّة الإنسان المحترف للكذب " الكذّاب " بمثابة السراب الذي يقلب الحقائق أمامنا ويجعلنا نجري وراء الأماني والآمال الخادعة ؛ وإذا به يقرّب أمام أعيننا الأشياء البعيدة المستحيلة ، فيما يبعد عنها كلّ ما هو قريب ممكن الوقوع ، والملاحظ في هذا التشبيه المركّب أنّ أمير المؤمنين عليه السلام استخدم حرف الجرّ علي مع الفعلين يبعد و يقرّب ، رغم أن من المفترض أن تستخدم حروف من مثل عن و من ولكنّ استخدام الحرف علي أبلغ هنا في تصوير الصورة البعيدة عن الواقع التي يرسمها لنا الإنسان الكذّاب لأنه لايبعد ولا يقربّ بالفعل الحقائق عنّا أو منّا بل هو يصوّرها علي أنّها قريبة مرّة وبعيدة مرّة أخري ، وحرف الجرّ علي هنا أبلغ وأدقّ في التعبير .
مستمعينا الأحبّة !
حول التشبيهات البليغة في نهج البلاغة والتي تقترب من الاستعارة ، والجانب الجمالي والفنّي فيها ، وإيراد بعض الأمثلة والنماذج منها ، طلبنا من ضيفنا علي الهاتف الشيخ علي العلي أستاذ فلسفة القوانين والتشريعات الاسلامية من قم المقدسة أن يورد لنا بعض الإيضاحات فتفضّل مشكوراً .
العلي: بسم الله الرحمن الرحيم القارئ لنهج البلاغة ولكلمات نهج البلاغة ربما يستطيع أن يصنفها الى عدة أصناف، البعض يغلب عليها طابع الخطب وكلها تمثل رؤية بلاغية وأرضية متكاملة في كيفية توظيف اللغة. الواقع يمثل إختلاف في عقد النص القرآني وممارسة استخدام النص القرآني عبر المعطيات، يعني يمثل حقبة أربعة عقود. هذا يبين الآلية التي رسمت النص العربي بعد أربعة عقود خصوصاً اذا نظرنا الى كلمات امير المؤمنين، مثلاً اذا رأينا أنه يكون قبل نزول القرآن تداول لكلمة الله او كلمة الدنيا او كلمة الناس او كلمة الشكر لذلك يغلب حضور مثل هذه الكلمات. عندما ننظر أنها تعطي تشبيهات دقيقة وربطاً متجانساً بين الانسان والآلة التي يستخدمها وكذلك طبيعة البيئة ومافيها من كائنات حية. هذه التشبيهات عكست توظيف اللغة بشكل متكامل. من الأمثلة التي يمكن أن نقولها، مثلاً وصف امير المؤمنين للطاووس، وصف امير المؤمنين لبعض الكائنات الحية، في هذا نجد حالة من الشعر والأدب الموجودة لدينا وحالة الخطب التي كانت سائدة الى توظيف آلية النعمة والشكر والارتباط بالطبيعة وغيرها من الأمور.
المحاورة: نعم مستمعينا ومن المعلوم أن الامام علياً وظف فن التشبيه على نطاق واسع في وصاياه ومواعظه الأخلاقية. حول هذا الموضوع أدلى لنا ضيفنا عبر الهاتف سماحة الشيخ علي العلي الأستاذ في فلسفة القوانين التشريعات من مدينة قم المقدسة بحديث مختصر ذاكراً بعض الأمثلة والنماذج. نسترعي انتباهكم مستمعينا الأفاضل الى هذا الحديث:
العلي: النقطة الأساسية والارتكاز الأساس هو أنه كيف يرتبط هذا التشبيه بشيء معلوم؟ من المعلوم أن الأخلاق وطبيعتها هي معنوية عليا، كيف تربطها وتضعها في مثال حي؟ الحقيقة عندما نأتي مثلاً للخطب على مستوى الدولة مثلاً او على مستوى ادارة شؤون الناس مثلاً في خطبته او وصيته لمالك الأشتر وخطابه الذي بعثه يقول "آتي في اللحظة والنظرة" يعني هنا ربط الزمان وربط الممارسة الجرحية يعني ربط اللحظة والتي هي تشكل الزمان او المدة المعينة وربط ايضاً النظرة التي هي ذات بعد مادي وايضاً تتضمن في داخلها الزمان. كذلك الاجتماعيات في كلام امير المؤمنين كثيرة وفيها أبعاد كثيرة منها اجتماعية الأمن والخوف واجتماعية الفتنة والدنيا مثلاً عندما ننظر الى كلماته، معظم كلماته تأتي بكلمة ألا وهنا تعطي دلالة للإنتباه وهي تنبه الى بعد اخلاقي معنوي يرتبط بالحياة اليومية وهذه كانت في معظم كلمات امير المؤمنين مثلاً عندما يقول: "لم يبق منها إلا قضابة كقضابة" العرب لهم ارتباط كبير بالماء لذلك عندما يلفت لهم أن الفتنة ماهي إلا قضابة، العرب ينتقل بها الى البعد المعنوي ومجرد أنه يتذكر أنها ماهي إلا قطرة ماء، هذه قطرة الماء لايمكن أن تسد رمقاً أضف الى ذلك عندما يقول "ألا وإن الآخرة قد اختلفت" يعني مجرد أن ينبه أنه ألا يعطي دلالة على أن هناك اختلاف والعرب مجرد أن يتنبه بهذه الكلمة يستدعي أن يوظف حواسه لما بعد ذلك. يعني ليس فقط أن يستنطق الحواس بالاذن لذلك بكلمة ألا ينتبه القارئ مباشرة الى المغزى تقريباً بكافة الحواس. كذلك يقول "إتخذوا الشيطان لأمرهم" هنا كلمة إتخذوا، هذه حقيقة توصل المعنى الى البعد المادي ومباشرة يستوعب الأفعال وتكون مؤثرة في الناس.
المحاور: موفور الشكر وكثير الامتنان لفضيلة الشيخ علي العلي أستاذ فلسفة القوانين والتشريعات من قم المقدسة، كونوا معنا وأصحبونا على خطى النهج بعد الفاصل.
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
ومن التشبيهات الرائعة الذكيّة التي استخدمها أمير المؤمنين عليه السلام في وصف بطش السلطان ، وضرورة مداراته خشية سورات غضبه التي قد تؤدّي إلي الفتك بصاحبه ، قولُه (ع) :
" صَاحِبُ السُّلْطَانِ كَرَاكِبِ الْأَسَدِ يُغْبَطُ بِمَوْقِعِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهِ
فالمقرَّب من السلطان المرافق له ممّن يُعَدّ من حاشيته مثلُه مثل راكب الاسد الذي يتمنى الناس مكانته حيث العز ومهابة الجميع منه فهو يبدو هكذا للناس لكن الحقيقة انه يخاف مركوبَه ويهابه أكثر من خوف الناس منه فبحكم قربه سيكون اوّلَ ضحية للسلطان .
ويكثر في نهج البلاغة الحديثُ عن الدنيا بجانبيها الإيجابي والسلبيّ ، تارة من خلال التشبيه وأخري عبر توظيف الاستعارات المختلفة ، والحديث التالي الذي ننقله لكم هو من باب التركيز علي الجانب الإيجابي من الدنيا ، وكيف يمكن أن تتحوّل إلي وسيلة للفوز والفلاح في الآخرة ، فلنصغ معاً :
" إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَ دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَ دَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ ، بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اللَّهِ وَ مُصَلَّى مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَ مَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ .
فنحن نواجه في الحديث السابق حشداً من التشبيهات البليغة المتتالية المشبّه الوحيد فيها هو الدنيا فيما تتنوّع المشبّهات بها ؛ فالدنيا هي دار الصدق ، ودار العافية ، ودار الغني ودار اكتساب الموعظة واستلهام الدروس والعبر ولكن شريطة أن يحسن الإنسان استغلالها لخيره فيها وفي الآخرة ، وهي بمثابة المسجد الذي يجتمع فيه المتحابّون في الله ، والموضع الذي تصلّي فيه ملائكة الله وتسبّح ، والمهبط الذي طالما نزل فيه وحي الله علي أنبيائه ورسله ، والمتجر الذي يعقد فيه أولياء الله صفقاتهم مع الخالق ليفوزوا في النهاية بنعيم الآخرة الذي لايزول ورضوان الله الذي هو أكبر من كلّ ذلك ؛ فالدنيا - إذن - هي الأصل ، وهي الصراط الوحيد الذي يسلكه الإنسان لبلوغ غايته القصوي في الآخرة ؛ فهي مزرعة الآخرة والقنطرة التي لا بدّ من اجتيازها كي ينال الإنسان السعادة الأبديّة .
مستمعينا الأكارم !
في حلقة الأسبوع المقبل من برنامجكم علي خطي النهج سنلج عالماً آخر من العوالم الأدبيّة والبلاغية في كلام أمير المؤمنين عليه السلام ألا وهو عالم المجاز والكناية ومظاهر الإعجاز البياني وتجلّياته في استخداماتهما ، حتي ذلك الحين تقبّلوا منّا خالص التحايا وكلّ الشكر علي طيب متابعتكم ، وفي أمان الله