لحكمة إلهية بالغة، بقي الامام علي بن الحسين ـ سلام الله عليه ـ حيا بعد المجزرة الدموية الاموية التي حلت ببيت الرسالة في كربلاء، في وضع مأساوي وصفه الامام السجاد عليه السَّلام ذاته في جوابه (للمنهال بن عمر) حين سأله، كيف امسيت يا أبن رسول الله؟ قال (سلام الله عليه): أمسينا كمثل بني اسرائيل في آل فرعون، يذبَحون أبنائهم ويستحيون نساءهم.
ولقد نجا عليه السلام بقدرة الله تعالي، في حين كان عمره يومها ثلاثا وعشرين سنة، فقد كان المرض الذي استبدَ به لاسقاط واجب الجهاد بالسيف عنه.
وقد قدر للإمام زين العابدين أن يتسلّم مسؤولياته القيادية والروحية بعد استشهاد أبيه عليه السَّلام، فمارسها خلال النصف الثاني من القرن الأول، في مرحلة من أدق المراحل التي مرّت بها الأمة وقتئذ، وهي المرحلة التي اعقبت مرحلة الفتوح الاولى، فقد امتدّت هذه المرحلة بزخمها الروحي وحماسها العسكري والعقائدي، فزلزت عروش الأكاسرة والقياصرة، وضمت شعوبا مختلفة وبلادا واسعة الى الدعوة الجديدة، واصبح المسلمون قادة الجزء الاعظم من العالم المتمدن وقتئذ خلال نصف قرن.
وجاء دور الإمام السجاد عليه السلام بعد استشهاد أبيه الامام الحسين ـ سلام الله عليه ـ مباشرة، ليقوم بما عليه في هذه المرحلة، والتي تمثلت بدوره الإعلامي من خلال إظهار الجانب المفجع والمأساوي لما حدث في كربلاء وما صنع الأعداء بأهل البيت ـ سلام الله عليهم ـ من ذبح وسبي، والإمام لم يقم بذلك من اجل العبرة فقط ولكن لكي يستطيع بعمله هذا ترسيخ الفاجعة في أذهان الناس ومن خلال ذلك يثير لدى الناس نتائج الطف السامية وترسيخ القيم الاسلامية التي جاهد من اجلها الامام الحسين عليه السَّلام.
لقد مر الامام السجاد ـ سلام الله عليه ـ بعد واقعة الطف الاليمة بفترة وصفت بالحرجة، حيث عاش حياة الحصار والتكتم الاعلامي من قبل الامويين، فكان لا مجال للإمام لإبلاغ رسالته والسير على النهج الذي خطّه جده النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وآباؤه ـ سلام الله عليهم ـ ولذلك قاد الامام السجاد ـ سلام الله عليه ـ وبعد حوادث الطف مباشرة، حركته الاصلاحية للأمة ويمكن المتتبع في هذا المجال، ان يلمح في قيادة الإمام عليه السلام ظاهرتين اثنتين، الاولى: استكمال الشوط الرسالي الذي بدأه الإمام الحسين ـ سلام الله عليه ـ حيث كان بنو أمية والضالعون في ركابهم مدركين تماما ما للحسين ـ عليه السَّلام ـ وآل البيت من مكانة لاتضاهيها مكانة في نفوس المسلمين وكانوا يعلمون ان قتل الحسين ـ سلام الله عليه ـ واصحابه في كربلاء سيثير سخط المسلمين عليهم، ومن أجل ذلك خططوا للتعتيم وبذلوا كل وسعهم لاثارة الضباب، لكي يمتصوا ايَ ردَ فعل متوقع، لاسيما في بلاد الشام حصنهم القوي.
وهكذا سخروا اجهزة اعلامهم المتاحة يومذاك حتي اوصلوا الناس إلي حد القناعة بان الحسين عليه السلام وصحبه انما هم من الخوارج. وقد كان مقدرا لتلك الدعاية ان تنجح في الشام إلي اقصي حدَ ممكن، مما كان يفرض القيام بما من شأنه ان يفشل الدعاية الاموية واهدافها المسعورة ويكشف بحزم عن اهداف ثورة الحسين عليه السلام وعن مكانته بالذات في دنيا المسلمين وهكذا كان.
بالتالي تبني الامام السجاد عليه السلام وكرائم اهل البيت كزينب وام كلثوم وغيرهما، سياسة اسقاط الاقنعة التي يغطي الامويون وجوه سياستهم الكالحة الخطيرة بها وتحميل الامة كذلك مسؤوليتها التأريخية أمام الله والرسالة.
ويمكن في هذا الصدد مراجعة خطب وكلمات الامام السجاد وعمته العقيلة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب في الشام، ومن اجل كسر التعتيم الاعلامي الاموي وفضح جرائم يزيد، وقف الإمام السجاد عليه السلام، في الحكم الاموي وبحضور يزيد بن معاوية وكل معاونيه من رؤوس التحريف والضلال والقي ببيانه الخالد معريا سياسة الامويين الضالة الدموية ومبينا من هم السبايا واي مقام رفيع يمثلون في دنيا الاسلام وقد جاء في بيانه:
(ايها الناس: اعطينا ستاً وفضلنا بسبع، اعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين. وفضلنا: بأن منا النبي المختار والصديق والطيار واسد الله واسد رسوله ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول وسبطا هذه الامة.
ايها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
ايها الناس: أنا ابن مكة ومني، أنا أبن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء، أنا أبن خير من ائتزر وارتدي وخير من طاف وسعي وحج ولَبّي، أنا أبن من حُمل علي البراق وبلغ به جبريل سدرة المنتهي، فكان قاب قوسين أو أدني، أنا من صلي بملائكة السماء، أنا ابن من أوحي اليه الجليل ما أوحي. أنا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء، وابن خديجة الكبري، انا ابن المرمل بالدماء أنا ابن ذبيح كربلاء.
وحين بلغ هذا الموضع من خطابه استولي الذعر علي الحاضرين وضج اغلبهم بالبكاء حين فوجئوا بالحقيقة مما اضطر يزيد ان يأمر المؤذن للصلاة ليقطع علي الإمام عليه السلام خطبته، غير ان الامام عليه السلام سكت حتي قال المؤذن (اشهد ان محمدا رسول لله) التفت الإمام السجاد عليه السلام إلي يزيد قائلا: (هذا الرسول العزيز الكريم جدك ام جدَي؟) فان قلت جدَك، علم الحاضرون والناس كلهم انك كاذب، وان قلت جدي، فلم قتلت أبي ظلما وعدوانا وانتهبت ماله وسبيت نساءه؟ فويل لك يوم القيامة إذا كان جدَي خصمك).
اما عقائل آل الرسول صلي الله عليه وآله وسلم فقد مرَغن أنوف بني أمية في الوحل واسقطن كبرياءهم عمليا أمام الأمة التي يحكمونها، تجد ذلك بوضوح في خطبة العقيلة زينب الكبري، التي القتها في مجلس يزيد في دمشق وفي المناقشات الحادة التي دارت هناك.
الثانية: تبني منعطف جديد للحركة الاصلاحية في الأمة. ان المتتبع لطبيعة دور الإمام السجاد عليه السلام في الحياة الاسلامية بعد عودته، يلمح انه عليه السلام قد رسم منهجه العملي بناء علي دراسة الاوضاع العامة للامة بعد ثورة الإمام الحسين عليه السلام، وتشخيص نقاط ضعفها ومقومات نهوضها.
مارس الإمام عليه السلام، دوره من خلال العلم علي انماء التيار الإسلامي الرسالي الاصيل في الامة وتوسيع دائرته في الساحة وقد ساعد في انجاح عمله عاملان اساسيان هما: الاضطراب السياسي والاجتماعي الذي تفجر في اكثر مراكز العالم الاسلامي اهمية وتاثيرا بعد مأساة الطف مباشرة والثانية التجاوب مع اهل البيت عليهم السلام من قبل قطاعات واسعة من الامة وذلك نتيجة لشعور اسلامي عام بمظلومية أهل البيت عليهم السلام خصوصا بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.
كما واصل الإمام السجاد عليه السلام، حركته الاصلاحية للامة عن طريق الابلاغ والتبليغ بأسلوب الدعاء والتي جمعت بالصحيفة السجادية والتي عبّر عنها أهل البيت عليهم السلام، بإنجيل أهل البيت وزبور آل محمد عليهم السلام.
فإن ما تمثّله هذه الأدعية من دور بنّاء ضروري في حياة الانسان وبناءه بناء انساني لما تحمله من أساليب ومعاني راقية في دعاء المولى سبحانه وبنفس الوقت هي دستور حياتي في المثل والأخلاق والفضائل يتربّى على مبادئها كل إنسان يريد الكمال وبلوغ الذروة في خط الإنسانية.
فقد اعتبرت هذه الصحيفة المنهج الواضح لبيان الاسس الحقّة وطرق التقرب للمولى العزيز سبحانه وتعالى.
اما في شأن استشهاد الإمام زين العابدين، فقد استشهد عليه السلام، في المدينة في الخامس والعشرين من شهر محرم للسنة الخامسة والتسعين للهجرة أو حسب روايات أُخرى في الثاني عشر من شهر محرم عن عمر يناهز السبعة و الخمسين عاما، فقد تقلد الوليد أزمّة الملك بعد ابيه عبد الملك بن مروان، وقد وصفه "المسعودي" بأنه كان جبارا عنيدا غشوما (مروج الذهب).
وكان هذا الطاغية (الوليد بن عبد الملك بن مروان) من احقد الناس على الأمام السجاد لانه كان يرى أنه لا يتم له الملك والسلطان مع وجود الامام السجاد عليه السلام.
وروي "الزهري": عن الطاغية الوليد أنه قال: لا راحة لي وعلي بن الحسين موجود في دار الدنيا. فأجمع رأيه على اغتيال الإمام علي بن الحسين زين العابدين، حينما آل اليه الملك فبعث سما إلى عامله على يثرب هشام بن عبد الملك وامره ان يدسه للامام عليه السلام ونفذ عامله له، فسمت روح الامام العظيمة إلى خالقها بعد ان أضاءت آفاق هذه الدنيا بعلومها وعباداتها وجهودها وتجرّدها من الهوى. و دُفن في جنة البقيع إلى جانب عمه الإمام الحسن عليه السلام.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.