الواقع والمنطق يقول أن من يطالب بالإصلاح لن يقدم على السرقة، ولن يلجأ إلى الاعتداء على ۱۲ سيارة إطفاء، لن يذهب إلى مستشفى جعفر الطيار ويحرق الأجهزة الطبيّة الموجودة، وبطبيعة الحال لن يحتجز الجرحى ويعتدي بالضرب على أفراد الطاقم الطبي العامل في المستشفى، وكذلك الأمر بالنسبة للقنصلية الإيرانيّة في البصرة.
المظاهرات التي بدأت بمطالبات محقّة تجاه الحكومة، بدأت بعض روافدها تتخذ مسارات بعيدة كل البعد عن الشعارات التي ترفعها، الملثمون الذين أقدموا بالأمس على كسر المحرّمات لا يمتّون إلى المتظاهرين بصلة، ربّما هناك من غُرّر بهم بالأمس في ساحات البصرة، إلا أن الملثمين الذين أحرقوا مقرّات الحشد الشعبي وأقدموا على ما أسلفناه أعلاه، هم بطبيعة الحال مرتبطون بأجندات لا تخدم وحدة وسلامة العراق.
بدا لافتاً الحكمة التي تحلّت بها قيادة الحشد الشعبي ومتطوعوها بالأمس في عدم الانجرار نحو فتنة داخليّة تفوّت الفرصة على العراقيين في استعادة الاستقرار، ولكن ما كان أشدّ جذباً للانتباه هو التحركات التي شهدتها وسائل التواصل الاجتماعي الإيرانية والعراقية خلال الأشهر القليلة الماضية، ووصلت إلى ذروتها في الأسابيع الأخيرة، من راقب وسائل التواصل الاجتماعي جيّداً أدرك وجود مساعٍ حثيثة لإيجاد التفرقة بين الشعبين، هؤلاء المندسون الذين مهّدوا لمشروعهم في الإعلام انتقلوا اليوم إلى الميدان لتحقيق الهدف ذاته.
إن ما حصل في البصرة بالأمس، مدينة الشهداء، يؤكد وجود مخطّط جديد لاستهداف العراق الذي نجح في تكريس تجربة انتخابية ناجحة، رغم ما طرأ بعدها، ومن هنا لا بدّ من الإشارة إلى جملة من النقاط، أبرزها:
أولاً: لا يمكن فصل ما حصل بالأمس في مدينة البصرة عن السيناريوهات التي طرأت على المشهد العراقي منذ الانسحاب الأمريكي عام ۲۰۱۱، وبعبارة أدق يندرج ما حصل بالأمس في إطار استهداف وحدة العراق، ويأتي استكمالاً للمشروع الداعشي المنهزم، ومشروع التقسيم الأكثر انهزاماً.
ثانياً: بدا لافتاً أن عملية الاستهداف بالأمس طالت القنصلية الإيرانية، ومقرات الحشد الشعبي ودور المرجعية الدينية البارز، ولعل نقاط الالتقاء لدى هذه القوى الثلاث هي تظافر جهودها في مكافحة الإرهاب ودوره، أي إن ما حصل بالأمس هو استهدف مباشر للقوى التي ساهمت في تحرير الأراضي العراقية، قبل أن تكون عملية الاستهداف تخصّ فريقاً هنا وآخر هناك، فهل يلجأ أبناء المدينة التي قدّمت النسبة الأكبر من الشهداء إلى استهداف جرحاهم؟.
ثالثاً: هناك دور بارز لهذه القوى في احتواء النفوذ الأمريكي في العراق، بعد العام ۲۰۱۱ وقبل العام ۲۰۱۱، فهذه القوى تحديداً هي التي منعت الأمريكي من استغلال ورقة داعش والعودة إلى أيام الحاكم بريمر، وبالتالي منعت الأمريكي في السيطرة مجدداً على القرار العراقي.
رابعاً: تأتي هذه العملية في ظل تقارب غير مسبوق بين الشعبين الإيراني والعراقي وعلى أبواب محرم وذكرى عاشوراء والأربعين التي تساهم في تذويب الخلافات وتحقق نموذجاً من التعايش السلمي والتقارب بين الشعبين، أن يحصل هذا الأمر قبل محرم ومسيرة الأربعين الكبرى، فيعني أن العدو يريد أن يوتر العلاقة بين الشعبين العراقي والإيراني خشية تعزيز أواصر هذه العلاقة التي يحلّ ربيعها في ذكرى شهادة الإمام الحسين عليه السلام.
خامساً: يمكن القول وبجدارة أن ما حصل بالأمس محاولة لتدفيع أهالي البصرة الثمن بسبب دورهم البارز في مكافحة الإرهاب الداعشي، المشهد الذي بدأ بالنيل من أكثر المحافظات تقديماً للشهداء على الأراضي العراقية من خلال وقف المشاريع الخدمية، يُستكمل اليوم عبر محاولات الاستهداف التي تسعى لإيجاد حرب بين أبناء البصرة، إضافةً إلى التأثير على مجريات ما يحصل في البرلمان العراقي، وتشكيل حكومة جديدة خاضعة للقرار الأمريكي.
سادساً: لا تنفصل هذه الأعمال عن الشهادات التي يدلي بها بعض النواب العراقيين، أو المقربين منهم، حول تعرّضهم لتهديدات غير مسبوقة هي الأكبر منذ عام ۲۰۰۳ من الجانب الأمريكي. فالجهة التي تخطط لخلط الأوراق سياسياً في مجلس النواب عبر الضغط على البرلمان، هي نفسها التي دفعت بمندسي الأمس جنوب البلاد بغية خلط الأوراق أمنياً.
باختصار، ما حصل بالأمس لا يمثّل أهالي البصرة، كما أنّه لا يمثّل الفصيل الأكبر من المتظاهرين، هناك من يسعى دون ظهور عراقي قوي كسر شوكة داعش وأمريكا، ولكن من هزم مشروع داعش ۲۰۱٤ سيهزم أي مشروع مماثل اليوم.