نتابع حديثنا عن الادعية المباركة، ومنها الدعاء الموسوم بـ (الجوشن الكبير)، حيث حدثناك عن مقاطع متسلسلة منه، ونحدثك الآن عن احد مقاطعه الذي ورد فيه: (يا من أَضْحَكَ وَأَبْكَى، يا من أَمَاتَ وَأَحْيَا، يا من خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى). هذه العبارات الثلاث التي ختم بها مقطع الدعاء، وهو المقطع الواحد والاربعون من دعاء الجوشن، يتضمن ثلاث ظواهر متقابلة او متضادة هي الاضحاك والابكاء، الاماتة والاحياء، الذكورة والانوثة، والسؤال الآن هو: ما هي النكات الدلالية الكامنة وراء هذه العبارات؟
بالنسبة الى العبارة الاولى وهي: (يا من أَضْحَكَ وَأَبْكَى) يمكننا ان نوضح دلالتها من حيث النصوص التفسيرية الواردة حيالها، حيث نجسد احدى الآيات الواردة في سورة النجم، وايضاً: العبارة الثانية الواردة بعدها، وهي «وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا» وايضاً: الآية الثالثة وهي «وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى».
لكن قبل ان نحدثك عن المظاهر المتقدمة نلفت نظرك الى ان التضاد او التقابل لا يختلف عن التجانس او التماثل من حيث كونها جميعاً مظاهر تجسد عظمة الله تعالى من خلال التوافق والتخالف، اي: مماثلة البعض للآخر او تضاد البعض للآخر.
والآن بغض النظر عن ذلك، يحسن بنا ان نتحدث اولا ً عن عبارة (يا من أَضْحَكَ وَأَبْكَى). فماذا نستخلص منها؟
تقول النصوص المفسرة بان العبارة المتقدمة، تنسحب على اكثر من مصداق ومن جملة مصاديق ذلك هو ان عملية الاضحاك ذاتها والابكاء مذلك، بصفتهما من اجزاء التركيبة البشرية التي خلقها تعالى، واورد عنها مجموعة خصائص، فالضحك والسرور والبكاء او الحزن يظلان مرتبطين باستجابة الانسان حيال ما هو محقق لاشباع حاجاته، وما هو على العكس من ذلك، اي: الاحباط الذي تواجهه الشخصية حيال حاجاتها، طبيعياً، ان فلسفة كل منهما: لها نكاتها المفصحة عن أسرار التركيبية البشرية فيما لا يمكن للعقل ان يحيط بذلك.
وهناك مصداق آخر لعملية الضحك والبكاء، هو: الثواب والعقاب الاخرويان المترتبان على سلوك الانسان في وظيفته العبادية التي خلق الله تعالى الانسان من اجل ممارستها، ووعده الثواب المتمثل في رضاه تعالى ودخول الجنة، والعقاب المتمثل في سخطه تعالى ودخول النار اعاذنا الله تعالى منها وهذا يعني: ان النكتة المتجسدة في عملية الاضحاك او الابكاء هي، اعظم ما يرتبط بحياة الانسان الابدية وهي: رضاه تعالى والجنة (رزقنا الله تعالى ذلك)، او سخطه والنار (اعاذنا تعالى منها).
هذا الى ان ثمة مصاديق اخرى ذكرها المفسرون، وهي مصاديق ترتبط بسائر مخلوقات الله تعالى وليس الانسان وحده، ومن ذلك مثلاً: الظواهر الطبيعية من اشجار وامطار وسحب و...، حيث ركز القرآن الكريم لها برموز متنوعة مثل: ان السحاب يرتبط بالامطار من حيث الرمز المتمثل في عملية البكاء بنزول الدمع، ومن حيث الرمز المتمثل في الضحك بنزول الانوار في الاشجار.
والمهم، ان المصاديق ـ مهما تنوعت او تمددت تظل تعبيراً عن أحد وجوه البلاغة القرآنية الكريمة، حيث نعرف تماماً ان النص الخالد يحتمل عدة وجوه تفسيرية، بعضها وردت في النصوص الشرعية بتوضيحها (وهو ما ينبغي ان تركن اليها)، والبعض يظل متصلاً بعملية التذوق الفردي مما ينبغي ان تنحفظ حيال ذلك.
*******