نحن الان مع مقطع جديد من الزيارة الجامعة للائمة عليهم السلام، وهي الزيارة التي يطلق عليها اسم (الجامعة الكبيرة) تمييزاً لها عن الزيارات الجامعة الاخرى.
وقد حدثناك في لقاءات سابقة عن مقاطع متسلسة من هذه الزيارة ونتابع ما هو الجديد منها الان... يقول المقطع الجديد مخاطباً الائمة عليهم السلام: (موالىَ لا احصى ثناءكم، ولا أبلغ من المدح كنهكم، ومن الوصف قدركم...).
ان هذا المقطع يتضمن ثلاث عبارات هي (لا اُحصي ثناءكم) و (ولا ابلغ من المدح كنهكم) و (لا ابلغ من الوصف قدركم)... ولعلك تتساءل عن الكلمات او الاسرار البلاغية وراء هذه العبارات التي تبدو وكأنها متماثلة في دلالاتها حيث تصب في موضوع واحد هو: ان الزائر لا يستطيع ان يستوعب بعباراته ما يستحق اللائمة عليهم السلام من التعريف بمنزلتهم...
ولكن الموضوع مع كونه يحوم على المعنى المتقدم، الا انه ـ في الواقع ـ يتميز ببلاغة كبيرة وافكار متنوعة لا بد لنا من محاولة استخلاصها من العبارات المتقدمة...
وهنا ينبغي ان نذكرك بما سبق ان كررناه عن ان هذه الزيارة قد انشأها الامام الهادي(ع)، وقد التمس احد اصحابه ان ينشىء له كلاماً بليغاً في حق الائمة عليهم السلام، وهذا يعني ان ثمة خصائص بلاغية قد طبعت الزيارة المذكورة.
*******
المحاور: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم احباءنا اهلاً بكم ومرحباً في هذه الفقرة من برنامج امناء الرحمان وشرح الزيارة الجامعة عبارات من قبيل لا احصي ثنائكم هل تفيد هذه العبارات او يفهم منها بعض الغلو في مقامات اهل البيت عليهم السلام؟ وما هو حد الغلو في هذا الباب، هذا السؤال نعرضه على ضيفنا الكريم سماحة الشيخ باقر الصادقي؟
الشيخ باقر الصادقي: بسم الله الرحمن الرحيم، ينبغي ان نعرف الغلو في اللغة ما المراد من الغلو، الغلو هو تجاوز الحد وفي الاصطلاح اتخاذ بعض الناس آلهة من دون الله عز وجل او من الخلق والاحياء والاماتة والرزق التي هي من شؤونات الربوبية، من دون الله عز وجل يعني لهم الخصوصية ولهم الاستقلالية في الاحياء وفي الاماتة وفي الخلق وفي الرزق، هذا طبعاً بلا شك يعتبر من الغلو وفي فقهنا وفي فقه جميع المذاهب الاسلامية هم صنف من الكفار، يعني يعتبرون من الكفار، واما بالنسبة الى مقامات اهل البيت واعطاء كل ذي حق حقه ففي الحقيقة هذا لا يعتبر من الغلو لان الائمة عليهم السلام هم قالوا: اجعلوا لنا رباً نهوب اليه وقولوا في فضلنا ما شئتم ولن تبلغوا، يعني اجعلوا لنا رباً يعني اجعلونا نحن عبيد لا تجعلونا آلهة، في نص آخر نزهونا عن الربوبية وقولوا في فضلنا ما شئتم ولن تبلغوا، وفي حديث الامام الصادق عليه السلام وهو يخاطب احد اصحابه يقول له: ما عسيتم ان ترووا في فضلنا الا الف غير معطوفة، وحينما يسئل الامام الباقر عليه السلام عن قوله سبحانه وتعالى، قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، قال الامام الباقر عليه السلام نحن الكلمات التي لا تستكفى فضائلنا، فهنا فرق بين الانسان ان يجعل الائمة "نعوذ بالله آلهة" هذا منعوا منها اهل البيت، بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وفي الزيارة الجامعة الكبيرة اشارة الى هذا المعنى، نعم من باب انه نعطيهم حقهم في الحقيقة حقهم نحن كعوام وناس غير معصومين لا يمكن ان نبلغ ذلك الحد، قد سئل احد علماء العامة عن امير المؤمنين عليه السلام فاجاب في قوله: ما اقول في رجل اخفى فضائله اوليائه خوفاً، فضائل الاولياء من ناحية التقية اخفوا هذه الفضائل، واخفى اعدائه فضائله حسداً ومع ذلك ظهر من فضائله ما ملأ الخافقين، فلذلك حينما يعلمنا الامام الباقر في مخاطبة الامام مواليه لا احصي ثنائكم ولا ابلغ من المدح كنهكم ومن الوصف قدركم، هذا لا يعد من الغلو وانما هو من باب التأدب واعطاء كل ذي حق حقه، والامام انما يتكلم مع الواقع اين الثرى واين الثريا اين المعصوم واين غير المعصوم فنحن لا يمكن لنا ان ندرك ما اعد الله للمعصوم وما جعل الله للمعصوم من مقامات من فضائل من شؤونات، كما يفيد ذلك حديث الامام الرضا عليه السلام للكافي الشريف ان الامام بمنزلة الشمس هل يمكن للانسان العادي ان يدقق في الشمس الا نظرة خاطفة لا يستطيع، الامام هكذا، ما ورد عنهم في فضل الامام وشأن الامام لانهم هم اعرف الناس والنور نور واحد فهذا المراد من كلامه سلام الله عليه موالي لا احصي ثنائكم، ولا يشم منها رائحة الغلو وانما هو اعطاء كل ذي حق حقه، والامام المعصوم هو معصوم وهو يعلمنا كيف نخاطب المعصوم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
المحاور: صلوات الله عليهم اجمعين، سماحة الشيخ باقر الصادقي شكراً لكم، وشكراً لاحباءنا المستمعين وهم يتابعون ما تبقى من هذه الحلقة من برنامج امناء الرحمان.
*******
ان اول ما يستوقف قارىء الزيارة هو ورود كلمة (الثناء) وكلمة (المدح) في مقطع الدعاء، حيث ينبغي ان نتسائل ما هو الفارق بين المدح والثناء... وهناك ثانياً تساؤل آخر هو: ان الامام(ع) استخدم كلمة لا (احصي) وكلمة (لا ابلغ) وكلتاهما بالتأمل الظاهري بمعنى واحد، ولكن الامر ليس كذلك، بل ينطوي على اسرار بلاغية...
وهناك ثالثاً استخدام الامام(ع) لكلمة (الكنه) وكلمة (القدر) اي كنه الائمة عليهم السلام وقَدْرهم، وملاحظة البلاغة الواردة في هاتين العبارتين:
بالنسة الى الفارق بين المدح و الثناء هو ان المدح يقابل الذم، اي اظهار الفضائل مقابل ضدها وهي الصفات السلبية واما الثناءفهو مقابل الصمت،... ويترتب على هذا الفارق ما يلي:
عندما نثني على الائمة عليهم السلام، فهذا يعني: اننا نستهدف اظهار ما خُفي على الاخرين من خصائصهم، ... ويدلنا على ذلك ما ورد من النصوص الميسرة الى ابي الائمة عليهم السلام، والائمة تبعاً لذلك، من ان احد غير الله سبحانه وتعالى والنبي(ص) ما عرفهم، وهذا يعني ان لهم خصائص يتعين لنا علينا التسليم بها، ولكننا ــ كما ورد في الزيارة ــ لا يمكننا ان نحص الثناء عليهم ما دام الائمة والنبي(ص) هما العارفان بذلك...
وكذلك قال النص (موالىَ لا احصي ثنائكم) اي: ليس بمقدورنا ان نقدم قائمة احصائية بعدد فضائلهم عليهم السلام....
وهذا على الضد من كلمة (المدح) لان المدح كما ذكرنا يعني: ما هو ضد الذم، بمعنى ان قارىء الزيارة يستهدف من الاشارة اى انه لا يبلغ من المدح كنهكم، هو:ان عرض ما هو ظاهر من فضائلهم - وليس خافياً - متعذر من بلوغ منتهاه، لان (الكنه) وهو (الجوهر) معروف من حيث ظهوره في شخصياتهم، ولكنه غير ممكن ان يبلغ احد منا معرفة حدود ذلك الجوهر.
واما العبارة الثالثة وهي (لا ابلغ من الوصف قدركم) فتعني: ان الزائر اذا اُقدِر له ان يتعرف على منزلة الائمة عليهم السلام من خلال كلماته الوصفية، فأنه يتعذر عليه ذلك، لان عِظم المنزلة او القدر من الفخامة بمكان كبير بحيث لا تستطيع الكلمات الواصفة للشئ بان تبلغ ذلك، اي:وصف المنزلة او القدر الذي يتصف به الائمة عليهم السلام.
اذن امكننا ان نتبين ــ ولو عابراً ــ ما تعنيه عبارات المقطع المذكور من الزيارة، وهذا يقتادنا الى ان نسأله تعالى بأن يوفقنا الى موالاة الائمة عليهم السلام، انه وليُ التوفيق.
*******