فصار العراق رسميا جزء من المقاومة الإسلامية التي قطعت على نفسها دعم مقارعة كل أشكال الهيمنة الصهيوامريكية، ودعم القضية الفلسطينية بشتى أشكال الدعم، لاسيما الدعم العسكري الذي يتجلى في دعم غزة واستهداف عمق الكيان الصهيوني من شماله الى عاصمته (تل أبيب) حتى جنوبه.
هذا التحول النوعي الذي جاء ضمن اسناد العراق لأهلنا المظلومين في غزة، وشكل للعراق نقلة استراتيجية، هو الإعلان عن إطلاق صاروخ الأرقب المصنع عراقيا، يستحق هذا الإعلان ان يكون يوما وطنيا للعراقيين وعيدا للتصنيع العسكري، لأنه اليوم الذي يعلن فيه العراق رسميا دخوله نادي الأقوياء الذين يصنعون قوتهم الصلبة بأيديهم وبإستقلالية تامة، بعيدا عن النفوذ الصهيوأمريكي الذي ثبت للعالم وعلى مدى ثمانين عاما تقريبا، أن أي ارتباط به واعتماد عليه (خصوصا من الجانب العسكري) يعني فقدان القدرة على اتخاذ القرار الاستراتيجي المصيري السيادي على كل المستويات ، وان عليك دائما وفي كل المستويات ان تكون تابعا للمصلحة الصهيوامريكية في كل المستويات وفي جميع المجالات.
إن الأمة التي قررت التوقف عن انتاج قوتها الصلبة بنفسها، والإعتماد على الآخر في إنتاج قوتها العسكرية، هي في الحقيقة تسلمه قدرتها على اتخاذ القرارات السيادية المستقلة وفي كل المستويات، مهما بلغت تلك الأمة من قوة إقتصادية وصناعية.
وأبرز دليل على إثبات هذه الحقيقة هي التجربة الألمانية، فألمانيا هي العمود الفقري للإقتصاد الأوربي، ومحركه الأول، وهي الروح التي تمنح اليورو قوة البقاء، لكنها خاضعة وراضخة أمام أي قرار يتخذه أي رئيس أمريكي في طريقة تعامله مع أوربا، لأنها محكومة بعدم إنتاج أي قوة صلبة لنفسها بعيدا عن التبعية للهيمنة الصهيوأمريكية.
فكلنا شهد معاناتها وتزلزلها يوم تفرعن عليها ترامب (الرئيس الأمريكي السابق) عندما قرر ألا يدافع عن أوروبا بالمجان، وأن على ألمانيا وأخواتها من الدول الأوربية أن تتساوى مع أمريكا في الإنفاق العسكري على الناتو.
وهكذا كان الأمر يوم قرر بايدن أن توقف أوروبا استيراد الطاقة من الغاز الطبيعي من روسيا عبر أنابيب نورد ستريم واحد وإثنين الواصلة بين روسيا وألمانيا بعد نشوب الحرب الأوكرانية الروسية، وليس هذا وحسب بل عليها أن تستبدل الغاز الروسي الذي يصلها بالأنابيب وبكل سلاسة، بالغاز الأمريكي الذي يأتيها بالسفن وبسعر يفوق سعر الغاز الروسي ثلاثة أضعاف.
ولما تململت أوربا، وتأخرت في الرضوخ للقرار الأمريكي، وارتفع صوت شركاتها، خصوصا الألمانية منها لأنها الأقوى والأبرز في منطقة اليورو كمصانع السيارات والبتروكيماويات وغيرها، تفجرت أنابيب الغاز الروسي ببصمات أمريكية واضحة ثابتة بالأدلة القاطعة لكل المخابرات الأوروبية، أمعانا من أمريكا في إذلال أوروبا وأرغامها على الرضوخ والسير في المسار الصهيوأمريكي.
وما كان من ألمانيا إلا السكوت المطبق وعدم القدرة في الدفاع عن كبريات شركاتها التي فقدت الكثير من أرباحها وشهدت التعثر الكبير في انتاجها، لكن في المقابل، نجد أمامنا التجربة الإيرانية، التي قررت أن تبني قوتها الصلبة أولا لتحصن نفسها من كل نفوذ أجنبي، وتضمن استقلالها على قرارها الاستراتيجي، خصوصا أنها تقع في جغرافيا تعتبر مركز الأطماع الصهيونية العالمية منذ أن انتصرت في الحرب العالمية الأولى، وقررت أن تزرع في قلب العالم الإسلامي غدة سرطانية وتورما خبيثا يجتمع فيه كل الحقد الصليبي على الأمة الإسلامية عبر التاريخ، ويتمركز فيه كل الطمع الإستعماري على ثرواتها، إسمته "إسرائيل".
الجمهورية الإسلامية قررت رفض هذا الواقع منذ الأيام الأولى لانتصار ثورتها الإسلامية، ومنذ أن جعلت نصرة القضية الفلسطينية استراتيجية راسخة في عقيدتها الدينية والسياسية. فقررت بناء قوتها الصلبة الذاتية المستقلة بسواعد شبابها وعقول علمائها منذ ان تكالبت عليها دنيا الصهيونية في حرب الثمان سنوات الصدامية، وهي اليوم قلعة حصينة مستلقة بقرارها السيادي بكل استقلالية، بعيدا عن اي نفوذ يجرها الى استسلام هنا أو تراجع هناك، ماضية في بناء قوتها الإقتصادية رغم كل التحديات والضغوط، وتكسر أقسى العقوبات -بإعتراف العدو قبل الصديق- وتفرض إرادتها على أقوى قوى العالم، دون أن يجرأ أحد منهم على قول (على عينك حاجب) حتى وإن ردت على إعتداءات دلوعتهم (إسرائيل) بدك قواعدها العسكرية في عمق أراضيها المحتلة.
اليوم وبعد الدخول في زمن المقاومة وتحقيق انتصاراتها في لبنان عام 2000، وتموز عام 2006، وسقوط مشروع الشرق الاوسط الجديد، وانتهاء عشرية النار والحرب الكونية على سوريا، وسقوط كل المشروع الظلامي الذي فرض على العراق بعد احتلاله عام 2003، خصوصا بعد تأسيسه الحشد الشعبي عام 2014، ودحره داعش وتحرير أراضيه التي احتلتها عام 2017 بسواعد شبابه ودمائهم الزكية، قرر العراق ان يكون جزء أصيلا وفاعلا من محور مقاومة الصهيونية العالمية، وجبهة مساندة وداعمة للقضية الفلسطينية، لأن تحرير فلسطين عقيدة راسخة في عقل كل عراقي أصيل، ولا مستقبل لعراق قوي كريم مستقل، بوجود كيان جعل العراق جزء من حلمه الأكبر (من النيل الى الفرات) وقد رسم هذا الحلم بكل وضوح وبلا خجل على علم دويلته المصطنعة.
صاروخ الأرقب العراقي بكفاءته العملانية ومدياته وتأثيراته الميدانية التي ستكشفها الأيام القادمة، هو إعلان عراقي عملي أنه قرر دخول نادي الأقوياء الذين ينتجون قوتهم الصلبة بإرادتهم، وأنه قرر دخول زمن التحولات العالمية الكبرى بإنتقال القوة من الغرب الى الشرق، بأن يكون القوة المستقلة الضاربة التي طوت زمن الهزائم، وانه لن يكون من محور الرضوخ للصهيونية بمعاهدات أمثال كامب ديفيد، ووادي عربة، وأوسلو، والجيوش المتكرشة، ومخازن السلاح المتطور المتكدس بالمليارات، لكن لا يقوى حتى الملك على التحكم ببرغي منها.
ويبقى الخوف وكل الخوف على العراق من القوى الناعمة التي تحركها الصهيونية العالمية فيه، وتفرض عليه حروبا ناعمة جنودها هم رجال السياسة، والإعلام، ومؤسسات المجتمع المدني، ممن يعتاشون على فتات السفارة الامريكية، ويتحركون بإشارة من سفيرتها.
ولذا كلنا أمل بمن جمعتهم دماء الحاج قاسم وابي مهدي المهندس وحب العراق فصنعوا الأرقب، بأن لا يتركوا ظهورهم مكشوفة لجنود الحروب الصهيوأمريكية الناعمة، وأن يدعموا ويقووا قواهم الناعمة كما فعلوا بقواهم الصلبة العسكرية.
بقلم: الإعلامي ليث جعفر