الجواب:
المؤتفكة قرى قوم لوط:
المؤتفِكة هي قُرى قوم لوط التي نزل بها العذاب بعد أنْ تمادت في عصيانها لله جلَّ وعلا، والآيةُ جاءت في سياق التعداد لنماذج من الأمم الغابرة التي عُوقبت بالاستئصال الشامل، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى / وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى / وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى / وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾([1]).
المعنى اللُّغوي لكلمة المؤتفكة:
ومعنى المؤتفِكة هو المُنقلِبة والتي أصبح أعلاها سافلها وصار سافلُها أعلاها، من ائتفك يأتفك أي انقلب، والائتفاك هو الانقلاب، ولذلك يُقال للكذب إفكًا لأنَّه يقلب الشيء عمَّا هو عليه واقعًا، والأفَّاك هو الذي يقلبُ الحقائق ويمتهنُ الكذب، ويُقال للمحتال والمخادِع أفَّاك لأنَّه يصرف الشيء عن حقيقته، ويُظهر الباطل في لباس الحقِّ، ولذلك قال الله تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ / تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾([2]) فالمراد من الأفَّاك هنا هو مثل الكاهن والمضلِّل والملبِّس الذي يُزيِّن الباطل فيظهر في لباس الحقِّ والخير والنفع.
وقد وصف القرآن فعل السحرة بالإفك، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾([3]) أي تلقفُ العُصيَّ والحبال التي قلبها وصيَّرها السحرةُ -في وهم الناظرين- إلى حيَّات، فحين ألقى موسى عصاه ظهر للناس واقعُ ما يفعله السحرة من تمويه وقلبٍ للحقائق وهو معنى ﴿يَأْفِكُونَ﴾ فوقع الحقُّ أي ظهر وتبيَّن الواقع بعد أنْ كان ملتبسًا بفعل سحرهم وإفكهم ﴿وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من تمويهٍ وقلبٍ للحقائق.
وخلاصة القول: إنَّ "الأَفْكُ بالفتح مصدر قولك أَفَكَهُ عن الشيء يَأْفِكُه أَفْكًا أي صرفه عنه وقلبه([4]).
منشأُ تسمية قرى قوم لوط بالمؤتفكة:
ومن ذلك يتَّضح منشأ وصف قُرى قوم لوط بالمؤتفكة، فإنَّ منشأ ذلك هو أنَّ الأرض قد ائتفكت بهم أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها أي أنَّ مبانيها وعروشها قد انهارت فأصبحت ركامًا وأنقاضًا بعد أنْ كانت قائمة أو أنَّ الأرض قد تشقَّقت من تحت هذه المباني والعروش فانتقضت وتسمَّرت في جوف الأرض فصار ما كان من هذه المباني عاليًا في جوف الأرض أو على قاعها.
وقد ذكرها القرآن الكريم بذات الوصف في آيةٍ أخرى ولكن بصغية الجمع، قال تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾([5]) فقد ورد رواية أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) "قُلْتُ: ﴿والْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ﴾ قَالَ: أُولَئِكَ قَوْمُ لُوطٍ ائْتَفَكَتْ عَلَيْهِمُ انْقَلَبَتْ عَلَيْهِمْ"([6]).
فقومُ لوط كانوا يقطنون عددًا من القرى قيل إنَّها ثلاث قرى أو هي سبع، وذلك هو منشأ الجمع، وأمَّا وصف القرى في الآية من سورة النجم بالمؤتفِكة أي بصيغة المفرد فنشأ عن إرادة الجنس من الألف واللام تمامًا كما يُقال خلق اللهُ السماوات، وخلق الله السماء، فالسماء أُريد منه الجنس الصادق على أفراد السماوات.
معنى قوله: ﴿أَهْوَى﴾:
وأمَّا معنى قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ فهو أنَّه جلَّ وعلا أهواها أي أسقطها، يُقال هوى على وجهه إذا سقط، وأهوى به إذا أسقطه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾([7]) أي تُسقطه وترمي به من علوٍ في هوَّة بعيدة، فالهُوي لا يكون إلا بالسقوط في الهواء من علوٍّ، كالرمي من شاهق أو سقوط القائم على وجهه أو قفاه، فلا يُقال هوى وأهوى لمَن نزل من أعلا بمثل السُلَّم أو جلس أو اضَّجع بعد قيام تدريجًا.
وعليه فمفاد قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ هو أنَّ الله جلَّ وعلا إمَّا أنْ يكون قد أمر الملائكة فاقتلعت قُرى قوم لوط من جذور الأرض وتخومها وذهبت بها عاليًا ثم رمَتْ بها في الهواء فصار أسفلُها أعلاها أو خسف بالأرض فتسمَّرت مباني القرى وعروشها في باطن الأرض، أو هبَّت رياحٌ عاصفة وعاتية فاقتلعت مباني القرى وعروشها ورمتْ بها بعيدًا أو تزلزلت الأرض من تحتها فانهارت مباني القرى وعروشها فصار أعلاها في الأسفل، وتحوَّلت إلى أنقاضٍ ورُكام، وكلُّ هذه الصور وشبهها يصحُّ معها التعبير بأنَّه تعالى قد أهوى بها.
إشكالٌ ودفع:
وما قد يُقال إنَّ المؤتفكة بمعنى المنقلِبة، وأهوى بمعنى قلَبَ، فيكون مفاد الآية أنَّ القرى المنقلِبة قد قلبها وهو من تحصيل الحاصل، فجوابه إنَّ ذلك ليس من تحصيل الحاصل لأنَّها لم تكن منقلبة حتى يُقال إنَّه قلب المنقلِب بل إنَّه قد قلبها فانقلبت، فمفادُ الآية أنَّ القرى المنقلِبة كان قد قلبها كما يُقال هذا القتيل قتلتُه.
ويُمكن أنْ يكون المراد من قوله: ﴿أَهْوَى﴾ هو أنَّه تعالى أهلكها كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾([8]) أي فقد هلَك، فيكون معنى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ هو أنَّه أهلكها.
معنى قوله تعالى: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾:
ثم قال تعالى: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ أي فأحاطَ بها من العذاب ما أحاطَ بها أو فألبسَها اللهُ من العذاب ما ألبَسها، ففاعلُ غشَّى هو الله جلَّ وعلا وضمير الغائب المؤنَّث المتَّصل في محلِّ نصب مفعولٌ به أول للفعل "غشَّى" فالتقدير غشَّى اللهُ المؤتفكةَ، وقوله: ﴿مَا غَشَّى﴾ اسم موصول وصلته، فالاسمُ الموصول مفعولٌ به ثان للفعل في "غشاها" وغشَّى الثانية هي صلة الموصول. فيكون مؤدَّى الآية فغشَّى المؤتفكةَ الذي غشَّاها به من العذاب.
ويُحتمل أنَّ الاسم الموصول هو الفاعل، فيكون مؤدَّى الآية فغشى المؤتفكة الذي غشاها أي فغشى المؤتفكة العذابُ الذي غشاها، وبناءً عليه تكون غشَّى المشدَّدة بمثابة المجرَّدة من التشديد فيكون لها مفعولًا واحدًا، فكأنَّه قال فغشيها الذي غشيها أي فغشيها العذابُ الذي غشيها كما في قوله تعالى: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾([9]) فقوله: ﴿مَا غَشِيَهُمْ﴾ هو الفاعل وضمير الجمع الغائب في قوله غشيهم هو المفعول به.
إلا أنَّ الاحتمال الأول هو الأظهر لكون الفعل مشدَّدًا، فالفاعل المستتر هو اللهُ جلَّ وعلا، والاسم الموصول مفعولٌ به ثانٍ للفعل في قوله: ﴿فَغَشَّاهَا﴾.
الإبهام فيما غشَّاها للتهويل:
ثم إنَّ استعمال الآية للاسم الموصول والذي هو من الأسماء المُبهمة كان -ظاهرًا- لغرض التهويل، فكأنَّ الآية أرادت الإشارة إلى أنَّ ما غشيهم وأصابهم من العذاب يفوقُ الوصف كما يقول القائل أصابنا من العَنَت والعناء ما أصابنا، فالإبهام وعدم التفصيل يُساقُ في مثل المقام لغرض التهويل والتفخيم كما في قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾([10]) فإنَّ عدم الإفصاح عن ماهيَّة ما أوحاه إليه سِيق لغرض التفخيم والإشارة إلى أنَّه يجلُّ على الوصف والبيان أو التصوُّر.
هذا وقد أفادت آياتٌ أخرى أنَّ الله تعالى قد أمطر قوم لوط بحجارة من سجِّيلٍ مسوَّمة أي معلَّمة كأنَّها خُلقت وأعدَّت لهذه الغاية، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ / مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾([11]) وقال تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾([12]).
فلعلَّ المقصود ممَّا أبهمته الآية من سورة النجم هو ما بيَّنته مثلُ هذه الآيات، فيكون المراد من قوله: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ هو أنَّه تعالى غشَّى سماءَ تلك القرى المؤتفِكة بحجارةٍ من سجيلٍ أمطرهم بها، وإنْ لم يكن هذا هو المراد بخصوصه من الآية فهو داخلٌ في المراد قطعًا فيكون مؤدَّى قوله تعالى: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ هو التعبير عن شمول العذاب وإحاطته بهم كما ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ﴾([13]) فيستوعبُه ويُحيطُ به.
وكما في قوله تعالى: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ فهو قد أحاط بهم وغمرهم، فمعنى قوله تعالى: ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ بناءً على ذلك هو أنَّ العذاب قد وقع عليهم من فوقِهم بالحجارة ومن تحت أرجلهم بالخسف وعن أيمانهم وعن شمائلهم بالرياح العاتية وانتقاض مبانيهم. ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ نعوذُ بالله من سخطِه وإملائه.
الشيخ محمد صنقور
----------------------------------
[1]- سورة النجم / 50-53.
[2]- سورة الشعراء / 221-222.
[3]- سورة الأعراف / 117-118.
[4]- سورة لسان العرب -ابن منظور- ج10 / ص391.
[5]- سورة التوبة / 70.
[6]- سورة الكافي -الكليني- ج8 / ص181.
[7]- سورة الحج / 31.
[8]- سورة طه / 81.
[9]- سورة طه / 78.
[10]- سورة النجم / 10.
[11]- سورة هود / 82-83.
[12]- سورة الشعراء / 173.
[13]- سورة الأعراف / 54.