قبل معركة طوفان الأقصى بشهرين كان وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، إيلي كوهين، يُجري اتصالات مكثّفة لاستكمال عمليات التطبيع، وتوسيع النشاط الدبلوماسي والاقتصادي والثقافي في القارة الأفريقية عبر اتصالات ثنائية مباشرة، في محاولة لاستغلال الاتحاد الأفريقي للوساطة، مستهدفاً دولاً أفريقية إسلامية كموريتانيا ومالي والنيجر.
يلاحظ أنه بمجرد وقوع معركة طوفان الأقصى وبدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تبخّرت تلك العودة الإسرائيلية المزعومة للقارة الأفريقية، وخرجت المظاهرات الغاضبة والمندّدة بالممارسات الإسرائيلية في قطاع غزة.
أعادت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة طرح موضوع العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، ولا سيما عقب المواقف التي اتخذتها الدول الأفريقية من الحرب والتي تعبّر عن مسار تلك العلاقات ومستقبلها، وموقع القضية الفلسطينية كأحد أبرز محدّدات تلك العلاقات. والملاحظ أن الموقف الجمعي للدول الأفريقية يميل إلى تأييد ودعم القضة الفلسطينية، ومرجع ذلك تشابه التجربة والذاكرة بين الدول الأفريقية والقضية الفلسطينية فيما يتعلّق بالعيش تحت الاحتلال والاستعمار والعنصرية.
بدا الميل الأفريقي صوب القضية الفلسطينية في ردود الفعل الشعبيّة على معركة طوفان الأقصى التي كانت واسعة جداً، وأسفرت عن دعم أفريقي شعبيّ كبير للمقاومة، وتعدَّدت مظاهر التّعبير الشعبيّ من التظاهرات الحاشدة في الشوارع، كما هو الحال في جنوب أفريقيا، ونيجيريا، والسنغال، إلى خطب المساجد وحلقات النقاش في الجامعات، إلى المقالات والمناظرات الصحافية على امتداد القارة الأفريقية.
في المقابل لا يمكن إنكار التوغّل الإسرائيلي في القارة الأفريقية في السنوات الأخيرة، ولكنّ "إسرائيل" لم تنجح في كسب ودّ الدول الأفريقية، كما تريد، حيث ظلّت هناك كتلة صلبة مناهضة للتمدّد الإسرائيلي في القارة ومؤسساتها الجامعة، وتجلّى ذلك واضحاً عندما خسرت "إسرائيل" معركة نَيل صفة العضو المراقب في الاتحاد الأفريقي، بسبب رفض غالبية الدول الأفريقية منح "إسرائيل" صفةَ العضو المراقب في الاتحاد الأفريقيّ في قمّة العام 2022.
أفضت معركة طوفان الأقصى إلى جملة من التداعيات والتبعات على مستوى العلاقات الإسرائيلية – الأفريقية؛ يمكن إيجازها بالمؤشرات الآتية:
- شكّلت مجزرة المستشفى المعمداني التي نفّذها سلاح الجو الإسرائيلي في مدينة غزة يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، نقطة تحوّل في المواقف الأفريقية من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لجهة تأييد أكبر للقضية الفلسطينية مقابل رفض واستنكار وإدانة الجرائم الإسرائيلية.
- لم تقتصر أو تنحصر ردة الفعل الأفريقية على الجرائم الإسرائيلية في المستوى الرسمي، بل تجاوزته إلى المستوى الشعبي. وقد شهدت عدة دول أفريقية مظاهرات مندّدة بالحرب على قطاع غزة، وشمل الاحتجاج الشعبي حتى الدول التي تؤيّد "إسرائيل"، وقد خرجت مظاهرات ضدّ مواقف الحكومات المؤيّدة لـ "إسرائيل"، ومظاهرات ضدّ الحرب على غزة واستهداف المدنيين.
- أحد أبرز أهداف إقامة علاقات سياسية إسرائيلية مع القارة الأفريقية هو ضمان تصويت الكتلة الأفريقية في المؤسسات الدولية لصالح "إسرائيل"، وعلى الرغم من فشل مجلس الأمن في وقف الحرب على قطاع غزة، إلّا أنّ تصويت الدول الأفريقية على مشروع القرار الذي تقدّمت به الأردن في الأمم المتحدة من أجل هدنة إنسانية فورية ودائمة في قطاع غزة، أيّدته وصوّتت لصالحه 36 دولة أفريقية، ورغم المعارضة الإسرائيلية والأميركية، لم يكن هناك أي دولة أفريقية من بين الدول المعارضة للقرار، بما فيها تلك الدول التي لها علاقات مع "تل أبيب".
- تُظهر التصريحات والاتجاهات السياسية الأفريقية عقب معركة طوفان الأقصى رفضاً شعبياً أفريقياً للتوغّل الإسرائيلي الحاصل في القارة الأفريقية، وفقدان أيّ تأييد ممكن خاصة مع حجم التظاهرات التي خرجت في العواصم الأفريقية رفضاً للمسارات والجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، ولا سيما أنّ الشعوب الأفريقية عانت طويلاً من الاحتلال والعنصرية ومناهضة حقوق الإنسان، الأمر الذي يعدّ تهديداً حقيقياً للوجود الإسرائيلي في القارة الأفريقية.
- موقف الاتحاد الأفريقي من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بدا متقدّماً ومعبّراً عن رفض أفريقي جمعي للجرائم الإسرائيلية، وقد أصدر الاتحاد الأفريقي بياناً، أكّد فيه ضرورة العودة إلى طاولة المفاوضات؛ لإنهاء الصراع بين "إسرائيل" وحركة "حماس"، ودعا رئيس المفوضيّة موسى فكي إلى العودة لطاولة التفاوض من دون شروط مسبقة؛ بغية الوصول إلى حلّ نهائيّ بقيام دولتَين تعيشان جنباً إلى جنب.
وخلال قمة السلام التي عقدتها القاهرة في21 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، دعا الفكي إلى تشكيل "جبهة عالمية مفتوحة" لوقف العنف الدائر في قطاع غزة وفي كلّ العالم، مطالباً بالتوقّف عن الاكتفاء بالتنديد والدخول في مرحلة الفعل.
والمهم هنا عودة التنسيق بين الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية؛ حيث أصدرت المنظّمتان بياناً مشتركاً في 15 تشرين الأول/ أكتوبر حذّرتا فيه من إبادة جماعية غير مسبوقة ضد سكان القطاع، وطالبا بوفق فوري للأعمال العسكرية. الأمر الذي من شأنه تعزيز العمل العربي الأفريقي مجدداً، ولا سيما في إطار كسب مزيد من التأييد الأفريقي للقضية الفلسطينية، وهو ما حاولت "إسرائيل" مقاومته منذ أن أسّست علاقاتها مع دول القارة.
تجلّت تداعيات معركة طوفان الأقصى وتأثيراتها على العلاقات الإسرائيلية – الأفريقية، في قضية مخطط التهجير المزعوم لسكان قطاع غزة إلى الدول الأفريقية، ففي 5 كانون الثاني/ يناير الجاري، تداولت الصحف العبرية أنّ "الموساد" ووزارة الخارجية الإسرائيلية يعملان سراً على إقناع حكومتي تشاد ورواندا باستقبال مهجَّرين من قطاع غزة.
وقد عرضت "إسرائيل" مساعدات اقتصادية وعسكرية على "الدولتين"، لقاء استقبال عشرات الآلاف من المهجّرين الفلسطينيين.
في اليوم التالي أي في 6 كانون الثاني/ يناير نفت 3 دول أفريقية، هي الكونغو الديمقراطية ورواندا وتشاد، الادّعاءات التي تناقلتها وسائل إعلام إسرائيلية وتتعلّق بإجراء مباحثات بشأن قبولها لاجئين فلسطينيين من غزة، ضمن خطة من دول الاحتلال الصهيوني للتهجير "الطوعي" لسكان القطاع.
إن الجرائم التي ارتكبتها "إسرائيل" في قطاع غزة على مدار أكثر من 100 يوم لن تنساها الذاكرة الجمعية لشعوب العالم عموماً، وشعوب القارة الأفريقية على وجه التحديد، وستعيق هذه الجرائم كلّ محاولات التوغّل والتغلغل الإسرائيلي في القارة الأفريقية، ولن تستطيع "إسرائيل" الاستمرار في خداع الشعوب الأفريقية بأنها "دولة" يمكن القبول بها والتعايش معها، وهي تهدم المساجد والكنائس وتقتل الأطفال والنساء وتحرق الحجر والشجر.
تعثّر تعويل "إسرائيل" على التغلغل في أفريقيا من خلال تقديم المساعدات المالية والاقتصادية بشكل كبير جداً، وذلك نتيجة التكاليف والخسائر الضخمة التي تكبّدها كيان الاحتلال في قطاع غزة منذ بدء معركة طوفان الأقصى، وهو ما سيدفع بالدول الأفريقية إلى البحث عن شركاء آخرين كالصين وروسيا وإيران، الأمر الذي يهدّد ويستنزف الوجود الإسرائيلي وسيناريوهات التطبيع في القارة الأفريقية.
ثابت العمور - موقع الميادين