وكان اللافت أن قادة الدولتين الأوروبيتين الأقوى في الاتحاد الأوروبي، وهما ألمانيا وفرنسا، تخلّوا عن سياسة توزيع الأدوار التي لطالما استخدموها مع العرب منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي، وكشفوا الأقنعة اليوم وتشاركوا في توزيع التهديدات والتحذيرات يميناً ويساراً على لبنان بالأخص، وعلى كلّ من يساعد الفلسطينيين في دفاعهم عن أنفسهم ضد آلة القتل الإسرائيلية.
وقد كشفت الصحف اللبنانية أن وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا حملت إلى لبنان رسالة تحذيرية وتهديدية في آنٍ، معتبرة أن "لبنان سيدفع ثمناً باهظاً في حال قرّر حزب الله دخول المعركة ضد إسرائيل".
أما على الجانب الألماني، فقد نقلت وزيرة الخارجية الألمانية إلى المسؤولين في لبنان التحذيرات والنصائح نفسها التي نقلتها وزيرة الخارجية الفرنسية. ودعت الوزيرة الألمانية رئيس الحكومة اللبنانية نجيب الميقاتي إلى التواصل مع حزب الله لثنيه عن الانجرار إلى الحرب "ناصحة بأن يبقى لبنان بمنأى عمّا يجري".
ومع وصولها إلى "إسرائيل"، ارتفعت نبرة تهديدات الوزيرة الألمانية، التي اعتبرت أن أمن "إسرائيل" خط أحمر بالنسبة لألمانيا.
وبعد هذا التوافق الكلّي في سياسات الدول الأوروبية، تتبدّل أحد أبرز السياسات التي كانت تطبع السياستين الألمانية والفرنسية تجاه غرب اسيا، وذلك كما يلي:
السياسة الفرنسية: السياسة العربية Politique Arabe
بعد الحرب العالمية الثانية، قامت الجمهورية الفرنسية الرابعة بمحاولة يائسة لتجميع إمبراطوريتها المتهالكة، لكن الأمر لم يكن ممكناً واعترف شارل ديغول أخيراً بالهزيمة في حرب استقلال الجزائر.
وبالرغم من التاريخ الاستعماري في المنطقة، حاول ديغول أن يصيغ لفرنسا دوراً محورياً في غرب اسيا، وأن يحوّل نظرة الشعوب إليها من قوة استعمارية إلى "بطلة الاستقلال الوطني"، وذلك ليحقّق لفرنسا نفوذاً في المنطقة، يوازي النفوذ الذي كانت تتمتع به سابقاً، ولكن بأسلوب مختلف تماماً يؤمّن لفرنسا استمرار امتيازاتها التجارية والاقتصادية والنفوذ السياسي، ونشر الفرنكوفونية.
وبالرغم من أن فرنسا كانت حليفة لـ"إسرائيل"، لكنها استطاعت أن تؤمّن لها مكانة خاصة لدى العديد من الدول العربية باعتبارها مناصرة لقضاياهم، وأدّى الرؤساء الفرنسيون هذا الدور بمهارة، فكانوا يحرصون على الظهور بمظهر "العرّاب" للبنان وسابقاً سوريا في السياسات الأوروبية والغربية.
السياسة الألمانية: التوازن Ausgewogenheit
منع الوضع الدولي ألمانيا من تطوير طموحاتها الاستعمارية في غرب اسيا في أواخر القرن التاسع عشر. وبعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن أولوية ألمانيا الغربية الحفاظ على مكانة ما في غرب اسيا، بل بقيت سياستها من ضمن السياسة الأميركية.
وبمجيء المستشار الألماني كونراد أديناور وتشديده على ضرورة تطوير علاقات وثيقة مع "إسرائيل" لاعتبارات "أخلاقية" وكوسيلة لإعادة تأسيس ألمانيا على المسرح العالمي، تفاوضت ألمانيا على اتفاقية تعويضات مع "إسرائيل" للتعويض عن جرائم النازية، ما جعل ألمانيا واحدة من أبرز الشركاء الرئيسيين في المساعدات والتجارة، والتزمت ببرنامج لتسليم الأسلحة سراً إلى "إسرائيل".
أعادت ألمانيا النظر في سياستها تجاه المنطقة في عهد المستشار فيلهلم براندت واعتمدت نهجاً سمي "سياسة التوازن"، وسعت هذه السياسة الجديدة إلى مواءمة علاقات ألمانيا الخاصة مع "إسرائيل" بشكل أفضل مع مصالحها الاقتصادية والأمنية المتنامية في غرب اسيا، فاعتمدت خطاباً أكثر توازناً تجاه الصراع العربي الإسرائيلي.
على عكس المملكة المتحدة وفرنسا، ليست لألمانيا علاقات تاريخية طويلة الأمد مع العالم العربي، ولا شكّ أن علاقتها الخاصة والمميّزة مع "إسرائيل" ومصالحها الأوسع في منطقة غرب اسيا، أبقت الصراع بين "إسرائيل" وجيرانها العرب على رأس أجندة السياسة الخارجية الألمانية. وهكذا، استمرت العلاقات الألمانية الإسرائيلية راسخة، وتتمتع بمستويات عالية من تبادل المعلومات والاتصال والتعاون.
واجهت "سياسة التوازن" أولويات متضاربة لدى الحكومات الألمانية، وبالرغم من تبدّل الخطاب العلني في فترات مختلفة ومع حكومات مختلفة، إلّا أنّ الثابت الدائم للسياسة الألمانية في غرب اسيا هو الشراكة الألمانية – الإسرائيلية، حيث حافظت ألمانيا على شحنات الأسلحة السرية والتعاون الاستخباراتي والتعويضات المالية، وظلت ألمانيا داعماً مخلصاً لـ"إسرائيل" في الأزمات الدولية، وحتى قرار مشاركة ألمانيا في قوات اليونيفيل في جنوب لبنان بعد حرب عام 2006 عزته ميركل إلى التزام ألمانيا بأمن "إسرائيل".
في النتيجة، إن تاريخاً من التباين في السياسات الألمانية والفرنسية في التعامل مع غرب اسيا، وأولويات كلّ دولة في تحالفاتها الشرق أوسطية والعربية، انتهى. هكذا، اقتربت سياسة الدولتين من بعضهما البعض، حين شعرت "إسرائيل" بالخطر، فظهرت الأولوية الحقيقية للسياسة الخارجية للدولتين: "أمن إسرائيل".
ليلى نقولا - موقع الميادين