وقد أوضح إردوغان أن تركيا يمكنها القيام بعمل مشترك مع "إسرائيل" في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والابتكار والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، ولم تغب عن اللقاء الملفات السياسية، وأبرزها التطبيع بين العدو والسعودية. وأعلن إردوغان لاحقاً عزمه على زيارة "إسرائيل" والصلاة في المسجد الأقصى. وقد يسبق ذلك زيارة نتنياهو لأنقرة.
تشير أغلب التقديرات إلى أن هناك استعداداً تركياً، ليس للعمل على استعادة التطبيع الكامل للعلاقات مع "إسرائيل" فحسب، بل أيضاً القيام بدور داعم لمسار التطبيع بين العدو والسعودية.
ويبدو أن تركيا مستعدة لأداء أدوار أخرى عبر قنوات خلفية لفتح مسارات في علاقة العدو مع دول المنطقة، على نحو تسعى فيه تركيا لتعزيز دورها وتأثيرها كقوة إقليمية في المنطقة، بصرف النظر عن مواقفها السابقة تجاه "إسرائيل" ودول التطبيع.
وشهدت العلاقات بين الطرفين توترات سياسية مختلفة منذ الاعتداء على سفينة مرمرة التركية عام 2008، والتي جاءت في سياق إعادة رسم السياسة الخارجية التركية تجاه غرب اسيا، كما جاءت في سياق سعي إردوغان لتعزيز مكانته الداخلية، ولكن على الرغم من التوتر الدبلوماسي بين الطرفين، فإنه لم ينعكس على العلاقات التجارية والاقتصادية التي شهدت نمواً ملحوظاً وأرقاماً قياسية.
أعلن إردوغان نهاية عام 2021 عزم بلاده على التقارب التدريجي مع "إسرائيل"، وهو ما تُوج باللقاء مع نتنياهو، وسبقه استقباله رئيس الكيان إسحاق هرتسوغ في تركيا، وتلته عودة السفراء، على نحو يعكس أن اهتمام إردوغان ينصب في هذه المرحلة على تطوير علاقته بالعدو الإسرائيلي وترميم ما شابها من توترات، بصرف النظر عن طبيعة الائتلاف الحكومي الفاشي في "تل أبيب" وعدوانه المتصاعد في فلسطين المحتلة، لاسيما انتهاكاته واعتداءاته المستمرة على المسجد الأقصى.
وفي الوقت الذي يعاني نتنياهو من اهتزاز في شرعيته الداخلية والخارجية، وتتعرض حكومته الفاشية لانتقادات دولية واسعة، جاء لقاؤه مع إردوغان ليشكل جسراً يتجاوز من خلاله تأكّل مكانته، الأمر الذي يعكس رغبة الأخير في استغلال عزلة نتنياهو الدولية في انتزاع أكبر مكتسبات منه والعمل على تمرير مشروع مركز الغاز الأوروآسيوي في تركيا، الذي يعتبر فيه العدو، بحكم الجغرافيا والموارد، مكوناً رئيسياً في إنجاح المشروع.
ترغب تركيا في أن تكون مركزاً دولياً للطاقة في شرق المتوسط بحكم موقعها الجيوسياسي، وتسعى لتكون ممراً للغاز الإسرائيلي المسروق للتصدير نحو أوروبا. وكانت قد استبعدت من عضوية "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي أنشئ عام 2018، والذي ضمّ في عضويته "إسرائيل" ومصر واليونان وقبرص والأردن والسلطة الفلسطينية، إضافة إلى فرنسا وإيطاليا، بهدف التعاون للاستفادة من الغاز.
وقد تبنى المنتدى مشروع خط أنابيب "إيست ميد" بهدف تصدير غاز المتوسط إلى أوروبا، إذ يبدأ الخط من فلسطين المحتلة، مروراً بقبرص، ثم جزيرة كريت اليونانية، وصولاً إلى إيطاليا.
وقد أبدت تركيا امتعاضها من المشروع، لكونه يتعارض مع مساعيها لاستبدال مسار خط الأنابيب ليمر عبرها، وهو المسار الأقرب إلى أوروبا والأقل تكلفة، وسيحقق عوائد مالية كبيرة للأتراك، مستغلةً تعثر مسار مشروع "إيست ميد" لأسباب مختلفة، ما دفع الشركات والدول إلى الإحجام عن الاستثمار، الأمر الذي شجع القيادة التركية على استعادة المبادرة عبر خطوات سياسية تجاه "إسرائيل" ودول المنطقة، تليها توافقات اقتصادية، لاسيما في سوق الطاقة، لتكون الممر المفضل للغاز نحو أوروبا.
نتيجة أزمة الطاقة العالمية ورغبة الغرب في إيجاد بدائل من الغاز الروسي، يشكل غاز شرق المتوسط أحد البدائل الأساسية، ما دفع الإدارة الأميركية إلى تشجيع عودة العلاقات الكاملة بين تركيا و"إسرائيل"، والتي تتوج بلقاءات وزيارات متبادلة بين قادة الطرفين.
ورغم أن العوامل الاقتصادية هي الأكثر تأثيراً في السياسة الخارجية التركية في هذه المرحلة، فإن طموح تركيا السياسي لا يمكن أن يغيب عن صانع القرار التركي عبر إعادة تقييم شامل للدور التركي على قاعدة تغليب المصالح المشتركة والفصل بين الملفات.
ترغب أنقرة في الاستثمار السياسي بالتوازي مع الاستثمار الاقتصادي، وترغب أيضاً في تأكيد أهمية دورها في استقرار المنطقة من بوابة التطبيع، وتسعى لاستعادة الثقة الأميركية عبر تطبيع علاقاتها مع الكيان بشكل كامل، بما فيها التعاون الاستخباري، وعبر أداء دور في مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي الذي يحظى باهتمام أميركي واضح، ولاسيما في ضوء رغبة بايدن في تحسين حظوظ في الانتخابات الأميركية المقبلة. ويأتي لقاء إردوغان ونتنياهو في إطار التنافس مع خصم تركيا التقليدي اليونان، التي زارها نتنياهو قبل أيام، في وقت تعمل أنقرة على ضمان حصّتها من غاز شرق المتوسط.
ومن الآثار المترتبة على انخراط تركيا في ملف التطبيع أنها قد تتيح المجال لانضمام دول إسلامية جديدة إلى اتفاقيات التطبيع، مثل باكستان وإندونيسيا وماليزيا، التي تتأثر بالمواقف التركية.
يأتي اللقاء بين إردوغان ونتنياهو في إطار عملية مستمرة لإعادة تموضع تركيا في المنطقة، نتيجة عوامل داخلية واقتصادية وسياسية من جهة، ونتيجة فشل سياسة تصفير المشكلات من جهة أخرى.
وأدّى تقلب وتحوّل السياسة الخارجية التركية التي بدت مفاجئة لعدد من الأوساط، لا سيما تجاه القوى الرئيسية في منطقة غرب اسيا، إلى اعتبار غالبية دوله الطرف التركي غير مرغوب فيه لأداء دور مؤثر في ملفات غرب اسيا، على الرغم من إعادة تموضعه في المنطقة التي قد تسهم في تغليب الفواعل الإقليمية الرئيسية لغة المصالح بينها، إلا أنها لن تؤدي إلى استعادة الثقة، فيما أدت مساعي إردوغان لتطبيع العلاقة مع "إسرائيل" ومصر والإمارات والسعودية إلى تراجع شعبيته ومكانته في الأوساط المناوئة للكيان والرافضة للتطبيع معه، بصرف النظر عن التبريرات التركية.
وسام أبو شمالة - موقع الميادين