إن شهر رجب هو الشهر الذي تُفتح فيه أبواب سماء الرحمة، وتنهمر فيه رحمة الله على الأرض بلا انقطاع. وقد رُوي في الأحاديث أن النبي محمد (ص) قال:
«سُمِّيَ شَهرُ رجَبٍ شَهرَ اللّه الأصَبَّ لأنّ الرحمَةَ على اُمَّتِي تُصَبُّ صبّا فيهِ».
شهر رجب ليس فقط أحد الأشهر المحرمة والمُشرّفة، بل هو أيضًا لحظةٌ في تاريخ الخلق تتلاشى فيها حواجز المسافة بين العبد وخالقه. وفي هذا الشهر، تهبّ نسمة الغفران، وتنبض القلوب بشوقٍ للعودة إلى الله جل وعلا شأنه.
تتجاوز مفردة "الرحمة"، في منطق القرآن الكريم، الرقة اللفظية والشفقة العاطفية. إنها هبة لا تتطلب ثوابًا، بل هي تجلٍ لكرم الله الذي لا حدود له، يشمل جميع القلوب، شاكرة كانت أم غافلة.
وكما تُشرق الشمس على السهول والصخور على حد سواء، كذلك تنظر رحمة الله إلى الصالح والطالح على حد سواء. وفي هذا الشمول المطلق للرحمة تكمن روعتها:
"حبٌّ بدون أي منة، مغفرة لا متناهية، وأمل لا ينضب".
إذا أردنا أن نرى صورة حية للرحمة، فعلينا أن نتأمل في سيرة النبي محمد المصطفى (ص). لقد كان النبي تجسيدًا حيًا لصفة الرحمة، ولُقِّب بـ"رحمة العالمين"، أي حنان ولطف بالنسبة لجميع الكائنات. وكان سلوكه ونظراته يفيضان بالرحمة حتى أن الأعداء كانوا يشعرون بالأمان عنده. وكان وجهه يشع سلامًا، صوته عذبًا، وكان وجوده بلسمًا لآلام البشر.
في فتح مكة، حين كانت القوة بين يدي النبي (ص)، وكان بإمكانه أن ينتقم لسنوات من التعذيب والمنفى في لحظة، فعفا. وقال لمن يدينون بدم أصحابه: "انطلقوا، أنتم أحرار".
وفي تلك اللحظة، تجلّى مفهومٌ كان سيُناقش لقرون في جملة واحدة: "الرحمة"، أي العفو عند القوة، أي الحب الذي يفوق الانتقام.
شهر رجب هو شهر بداية الرسالة؛ فرسالة النبيّ (ص) انطلقت في هذا الشهر، لتتجلى رحمة الله في صورة إنسان على الأرض. منذ اليوم الذي دوّى فيه صوت "اقرأ" في غار حراء، وُجّهت للإنسان دعوة جديدة: "العودة إلى الله لا بالخوف، بل بالمحبة".
في واقع الأمر كانت رسالة النبي محمد (ص)، رسالة رحمة في العالم؛ نورٌ بدّد ظلام الجهل، وغرس الإيمان والأمل في القلوب.
لذا، فإن الصلة بين شهر رجب والنبي محمد (ص)، رحمة العالمين، صلة جوهرية. رجب هو منبع الرحمة، ومحمد (ص) هو تجسيدها. في كل مرة يحل فيها هذا الشهر، كأن الله يُذكّر القلوب بأن باب الرحمة لم يُغلق بعد. وتخبرنا رحمة الله، من خلال السيرة النبوية:
"لا يزال بإمكانك العودة، لا يزال بإمكانك المسامحة والعفو، ولا يزال بإمكانك أن تتطهر".
وبالتالي، فإن فهم شهر رجب لا يتحقق بالأدعية والأذكار فحسب، بل يكتمل عبر العمل بمعنى روح الرحمة؛ حين يصبح الإنسان نفسه مصدر سلام للآخرين.
لذلك يعد شهر رجب المرجب تمرينا للتعايش بشكل أكثر حنانا، وهو علامةٌ من علامات المدرسة المحمدية؛ مدرسة الذي يُعلّمنا أن "الرحمة" سرّ الخلق، وأن سبحانه وتعالى أظهرها لنا بأبهى صورها في نبيه الأكرم (ص). كل شهر من رجب يُذكّرنا بأن العالم لا يزال لديه عذرٌ للحنان والمحبة وهو اسم النبي الأعظم محمد المصطفى (ص).
من منظور آخر، يُمثّل شهر رجب جسراً يربط البشرية التائهة بنبي الرحمة (ص)؛ جسراً يمتد فوق نهر احتياجات أرواحنا وعطشها. وهذا الشهر الكريم ليس مجرد تقويم، بل هو بوابة تدعونا إلى جوهر تعاليم نبوية.
عندما أنعم الله تعالى برحمته على العالم في أبهى تجلياتها، أي النبي محمد (ص)، جعل من شهر رجب وقتاً لبدء هذا التواصل الروحي، لنتعلم كيف تتدفق هذه الرحمة في حياتنا اليومية. وهذا الشهر دعوة للصعود على هذا الجسر وفهم حقيقة أن مدرسة أهل البيت (ع) هي مدرسةٌ يمتزج فيها سرّ الخلق بمفهوم الرحمة.
فجوهر هذا الجسر هو دعوة إلى البساطة واللطف والحنان العملي، وهو المبدأ نفسه الذي جسّده النبي الأكرم (ص) بصفة "رحمة للعالمين".
إذن نخطو في كل يوم من أيام شهر رجب، خطوة صغيرة بعيدًا عن روتيننا اليومي، نحو فهم أعمق لأسلوب حياة يهدف إلى غرس بذور الحنان والمحبة في القلوب.
وفي الواقع، يذكرنا شهر رجب الأصب بأنه إن كان للعالم سبب للحنان والمحبة، فهذا السبب لقد تجلى لدى مرشدنا، والآن يقع على عاتقنا عبور هذا الجسر ولنجعل هذا الدرس العظيم انعكاسا لعالمنا اليوم.