المشاهد الكارثيّة لزلزال تركيا الذي وقع قبل أسبوع، أثارت قلق العراقيين، بسبب ما عاصروه خلال الأشهر الماضية من انهيارات متتالية لعدد من المباني أدت إلى سقوط عشرات الضحايا. هؤلاء يقفون اليوم أمام كابوس جديد، مع وجود آلاف المباني الآيلة للسقوط في أي لحظة، وسط دعوات إلى تدارك الكارثة الإنسانية قبل وقوعها.
مثل هذه المعاناة تفتح الباب على واقع مرّ يواجهه العراقيون في المحافظات كافة، الذين بات المئات منهم يترقّب الموت كل يوم وفي كل لحظة، في ظل توثيق الدفاع المدني العراقي وجود أكثر من 2500 مبنى آيل للسقوط في مختلف المحافظات.
2517 مبنى مهدّد بالسقوط في أي لحظة
يؤكد المنسق الإعلامي لمديرية الدفاع المدني نؤاس صباح، أنه "بعد حادثة انهيار قطارة الإمام علي، وما تلاها من حادثة انهيار مبنى المختبر الوطني، بدأت المديرية بإجراءات الكشف على المباني في عموم المحافظات العراقية، من خلال المشاهدات العينية للتصدعات والتشققات، وكذلك ملاحظة الدعامات وغيرها، وتحويل المؤشر عليها من ملاحظات إلى الدوائر الهندسية للبتّ بمدى صلاحيتها باعتبارها صاحبة الاختصاص". ويلفت إلى أن أغلب الملاحظات تأتي نتيجة تقادم البناء والرطوبة، وكذلك الأخطاء الهندسية في المباني المشيدة حديثاً بسبب إضافة طوابق أخرى، كما جرى في مبنى المختبر الوطني مما أدى الى انهياره بالكامل.
ويشير صباح إلى أن الدفاع المدني أحصى خلال العام الماضي وجود 2517 مبنى من المحتمل أن يكون آيلاً للسقوط في عموم المحافظات، تم تحويل ملفاتها جميعاً إلى الجهات المعنية لحسم الأمر والتأكد من سلامتها، وكان من بينها "بناية الجادرجي" في منطقة المنصور ببغداد، التي تم إفراغها من قبل أمانة العاصمة لخطورتها، كذلك تم تسجيل بعض الملاحظات على جامعة "أوراك" في جانب بغداد الرصافة، ولكن كان للمكتب الاستشاري الهندسي رأي آخر وتم فتحها أمام الطلبة، وبالتالي أخلت مديرية الدفاع المدني مسؤوليتها منها بعد قرار الدوائر الهندسية..
وفي الوقت الذي يبيّن فيه صباح أن فرق الدفاع المدني لا تزال تجري الكشوفات لكل المشاريع القائمة في العراق، سواء الحكومية أو التابعة للقطاع الخاص، يؤكد أن قانون الدفاع المدني العراقي رقم 44 لعام 2013، ألقى على عاتق المديرية إجراء الكشوفات السنوية بواقع مرتين، الأول في النصف الأول من العام، والثاني يعدّ بمثابة كشف متابعة في النصف الآخر، من حيث توفير متطلبات الدفاع المدني كمطافئ الحريق ومنظومات الإطفاء الرطبة والجافة، وسلالم الطوارئ الخارجية، ولوحات الدلالة الإرشادية، وما إلى ذلك من شروط السلامة.
المشكلة بدأت ما بعد العام 2003
من جهته، يعتبر المهندس المدني محمد العامري أن مشكلة المباني الآيلة للسقوط بدأت بالظهور في العراق ما بعد العام 2003، مع مرور البلاد بتغيّرات سياسية وأمنية واجتماعية أدت إلى ظهور الفساد، وأثّرت على مفاصل الدولة كافة كتلك المعنية بمتابعة المشاريع العمرانية.
ويقول العامري: "هناك مبانٍ تتعهّد بها شركات حكومية أو قطاع خاص أو قطاع أهلي لا يتم الالتزام خلالها بحدود المواصفات الهندسية، التي لها محددات". ويضيف: "العراق يمتلك المواصفات الهندسية التي تعتبر من أرقى المواصفات في الشرق الأوسط والعالم، وهي عبارة عن جمع المواصفتين الهندسيتين الأميركية والبريطانية، لكن هذه الحدود لا يتم تطبيقها من قبل المقاولين المسؤولين عن الأبنية، نتيجة الفساد، إذ يتم تغيير كمية مواد البناء، ونتائج فحوصات التربة التي هي بالغة الأهمية بالنسبة للأبنية الكونكريتية، كلها يتم التلاعب بها من أجل كسب الأرباح والحصول على الأموال، لذلك نلحظ ظهور مشاكل إنشائية في بعض الأبنية بعد فترة من الزمن، وبالتالي تكون آيلة للسقوط ومهددة لحياة السكان الذين يقطنونها، أو الشركات والمكاتب أو المحلات".
وعن مبنى الجادرجي المهدد بالسقوط في منطقة المنصور ببغداد، يشير العامري إلى أنه "مبنيّ منذ التسعينيات، وهو جميل جداً ولكن حدث في العمارة خلل إنشائي، نتيجة وجود قطعة أرض فارغة بجوارها أخذها أحد المقاولين للبناء، وعندما بدأ بحفر التربة وبناء أساس هذه البناية الجديدة، لم يأخذ بعين الاعتبار حدود المواصفة الهندسية في حماية البنايات المجاورة لها، وبالتالي تسبب ذلك بأذى كبير للمنشأة المجاورة له، والتي هي عمارة الجادرجي التي تضررت كثيراً ووصلت إلى درجة مَيَلان بفشل إنشائي بزاوية 45 درجة.
أما عن دور البلديات، فيقول العامري: "مع الأسف البلديات المعنية غير قادرة في بعض الأحيان على وضع حلول إنشائية، كون لهذه الحلول فترة معينة من عمر المبنى أو من عمر الفشل الإنشائي، الذي إن طال عمره فلا حل سوى بالهدم".
مواطنون يتحدون الموت: لن نغادر
تقطن عشرات الأسر العراقية في مبانٍ تحيطها التشققات داخل مناطق متعددة، كالشورجة والشيخ عمر والكاظمية والحارثية، كلّها أدرجها الدفاع المدني في لائحة المباني الآيلة للسقوط، وطالب المعنيون بالتوجيه لإخلائها في أسرع وقت تفادياً لوقوع كوارث إنسانية كبرى.. وبينما تتصدر بابل القائمة بأكثر من 820 عمارة ومنزلاً، تشير أرقام المديرية إلى وجود ما يزيد عن 320 مبنى مهدّداً في العاصمة بغداد.
ورغم حجم الكارثة إن وقعت، يتمسّك بعض السكان بقرار عدم المغادرة، كالمسن أبو كاظم الذي يشير في حديثه للميادين نت إلى أنه "ليس من السهل على أحد أن يترك منزله الذي أقام فيه لسنوات، وزوّج فيه أولاده واستقبل أحفاده"، ويقول: "نقوم بشكل دوري بصيانة سريعة للتشققات التي لا ننكر أنها تزداد كل عام ولكن هذا لا يعني أننا سنغادر بيتنا". في حين تسأل أم يوسف عما إذا كانت المغادرة ستكون مقابل تأمين سكن لائق، "فلا يجوز أن نبقى في الشارع".
مأساة متنقّلة
سجّل العام 2022 أكثر من حادثة انهيار لمبانٍ وعبّارات أودت بحياة العشرات، خلال فترات متقاربة، إذ أدى انهيار المختبر الوطني في حي الكرادة في شهر تشرين الأول/ نوفمبر إلى مصرع وإصابة 17 مواطناً، وقبله حادث قطارة الإمام علي غرب كربلاء في آب/أغسطس الذي خلّف وراءه 7 ضحايا قضوا جميعهم تحت الأنقاض، فيما توفي 4 أشخاص وجُرح ما لا يقل عن 8 بينهم عمّال أجانب في انهيار مبنى مطعم "دجاج ليلى" وسط بغداد في أيار/ مايو.
وكما العام 2022، سُجِّلت في العام 2019 حوادث مماثلة كانهيار عبّارة سياحية في الموصل في آذار/مارس تسببت بمقتل أكثر من 120 شخصاً، بعد أن انهارت عبّارة مماثلة في العام 2013، في حادثة عرفت حينها بحادثة "المطعم اللبناني"، والتي قضى على إثرها ما يزيد عن 5 أشخاص.