فيشعر الفرد بأنَّ من واجبه أن يقدِّم من نفسه ومن حريَّته شيئاً للآخر، لسدِّ حاجاته الحيويَّة، ومساندة قضاياه الخاصَّة والعامَّة، ويرى أن يحمل مسؤوليَّة طاقته، باعتبارها جزءاً من طاقة المجتمع الَّتي اؤتمن عليها من قبل الله، فلا بدَّ له من أن يمنحها للمجتمع، ويحركها في مصالحه، سواء كانت مالاً أو علماً أو قوَّةً أو أيّ شيء آخر، ولا يستغلّها لحسابه الخاصّ، وإلَّا كان سارقاً وغاصباً ومعتدياً على الشَّأن العام، لأنَّ المجتمع ليس وجوداً متميّزاً في الواقع بشخصه، بل هو وجود الأفراد الَّذين يعيشون في ظلّ الرابطة الاجتماعيَّة التي تتمثَّل بالتزام الإنسان بالآخر، ما يجعل من طاقة الفرد طاقةً للمجتمع، بالمقدار الذي تتطلَّبه حاجة المجتمع.
وهكذا تتَّسع مسؤوليَّة الفرد لتشمل القيام بمهمَّة حماية السِّلم الاجتماعي من نفسه ومن غيره، وهذا الَّذي يؤكِّده معنى جهاد النَّفس في الامتناع عن ظلم الآخر، وفي جهاد العدوّ لمنعه من ظلم المجتمع، بحيث يصل الأمر به إلى درجة التَّضحية بالنَّفس من أجل الآخر، كواجب ديني حاسم.
إنَّ القضيَّة هي أنَّ الدّين، وفي جانبه الأخلاقي والتّشريعي، يحمِّل الإنسان الفرد مسؤوليَّة ما يحمله في داخله من عناصر القدرة لأجل حماية المجتمع، لأنَّ الشَّأن الخاصَّ لا بدَّ من أن يتحرَّك لحساب الشَّأن العام في ميزان القيمة.
ولا بدَّ للمجتمع - في التخطيط المدني - من أن لا يقهر الفرد في ذاتياته وحاجاته الخاصَّة، إذا لم تنحرف عن الخطّ المستقيم، فليس له سلطة عليه إلَّا في نطاق حفظ النظام العام.
ومن هنا، يؤكِّد الدّين ضرورة وجود الحرية الفردية، فلا سلطة لإنسان على إنسان، ولا لقوَّة اجتماعيَّة على حالة فرديَّة، إلَّا في نطاق القانون الذي يحدِّد للجميع الحقوق الفرديَّة والاجتماعيَّة، مما يدخل في حساب توزيع الوظائف والمسؤوليَّات الَّتي لا حقَّ لأيّ إنسان أن يتجاوزها ليتدخَّل في شؤون الإنسان الآخر، فلا مجال للتمرّد والعدوان والانحراف، لأنَّ النوازع الذاتيَّة الخاصَّة لا حريَّة لها - من جميع الجهات - في الإساءة إلى الواقع الفرديّ للإنسان الآخر أو للمجتمع كلّه، فإذا تجاوزته، كانت مسؤولةً أمام الله في الدّنيا والآخرة، لتواجه الحساب الدَّقيق والعقاب الصَّارم، إضافةً إلى مسؤوليَّاتها في الدنيا أمام المجتمع وقيادته إذا أخلَّت بنظامه العام.
وإنَّ الدّين يضع الضَّوابط الاجتماعيَّة التي تعمل على إدارة الأمر بطريقة إنسانيَّة واقعيَّة، حيث الكلّ مسؤول عن التحرك لمعالجة المشاكل الطَّارئة في نطاق الفرد والمجتمع، ليبقى التوازن العامّ في حركة القيم التي يختزنها الجميع في معنى الإيمان، والَّتي يتحركون من خلالها في معنى المسؤوليَّة، فيلتقي الوازع الداخلي بالوازع الخارجي في إقامة القاعدة العامَّة الضَّابطة للواقع كلِّه، في حدود الإمكانات الواقعيَّة للانضباط الإنساني.
* من كتاب "الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل".
السيد محمد حسين فضل الله