كما كشف عن العلاقات السرية بين الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والنظام العسكري في ميانمار، وذلك اعتمادا على وثائق ومستندات وزارة الخارجية الإسرائيلية.
واستعرضت هذه الوثائق التي رُفعت عنها السرية مؤخرا، العلاقات العسكرية والسياسية بين تل أبيب وميانمار، منذ بداية خمسينيات وحتى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، مما يعني الإبقاء على كواليس هذه العلاقات -بعد تلك الحقبة الزمنية حتى يومنا هذا- طي الكتمان.
الحرب الأهلية والإطاحة بالنظام المدني
اعتمدت العلاقات التي وطّدتها جميع الحكومات الإسرائيلية مع ميانمار على بيع الأسلحة مقابل الدعم السياسي، وذلك رغم فساد جيش ميانمار، كما يشير تقرير الصحيفة الإسرائيلية.
ويقول معد التقرير، المحامي إيتاي ماك، إن حكومات إسرائيل حافظت على العلاقات الوطيدة مع "الطغمة العسكرية" في ميانمار وتدريبها وبيعها الأسلحة، على الرغم من درايتها باستخدام هذه الأسلحة لارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إذ رأت تل أبيب في هذه العلاقة فرصة لتسويق صناعاتها العسكرية.
وكان ماك تقدّم بالتماس للمحكمة العليا الإسرائيلية قبل سنوات، بالتعاون مع مؤسسات حقوقية، وطالب فيه بإصدار قرار يلزم الحكومة الإسرائيلية بوقف تصدير الأسلحة إلى ميانمار، ووقف تدريب الجيش ودعم النظام الدكتاتوري هناك، والتحقيق مع الجهات والشخصيات الإسرائيلية بشبهة الضلوع في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في ميانمار.
وتظهر الوثائق -التي سُمح بنشرها- أنه كان لإسرائيل الدور المحور والمركزي الفعال في تأسيس وإقامة جيش ميانمار، الذي قاد على مدار سنوات طويلة حربا أهلية، إذ لعبت إسرائيل دورا في إعادة تأهيل وهيكلية الجيش البورمي ليكون جيشا عصريا وحديثا ومزودا بمختلف الأسلحة المتطورة.
وتبين الوثائق أن حكومات إسرائيل رافقت تطوير وتدعيم الجيش البورمي خلال إدارته لبلاده من وراء الكواليس، حيث زوّدته بالأسلحة والمعدات العسكرية، وأسهم هذا الدعم في الدفع بالجيش البورمي للإطاحة بالقيادة والنظام المدني، ومن ثَمّ تأسيس نظام عسكري مستبدّ يحكم ميانمار إلى الآن.
دعم عسكري بلا تحفّظ
يؤكد تقرير "هآرتس" أن إسرائيل لم تكترث لحقيقة أن إمدادات السلاح والدعم والتدريب العسكري للجيش البورمي ليست موجهة للدفاع عن الدولة من أي تهديد خارجي، بل تجاهلت أن هذه الأسلحة بالإضافة إلى الخبرات والتدريبات التي تقدمها استخدمت في الحرب على سكان ميانمار.
ويستدل من معاينة المستندات والوثائق السرية للخارجية الإسرائيلية، التي تضمها عشرات آلاف الصفحات، أنه لا يوجد تحفظ أو أي رفض واحد حتى من أي مسؤول إسرائيلي لتدريب الجيش البورمي وصفقات الأسلحة وتوريد المعدات العسكرية إلى ميانمار.
ويستشهد إيتاي ماك ببرقية عام 1955، تناول خلالها مندوب إسرائيل في ميانمار، مردخاي غازيت، التعاون الوثيق بين البلدين في المحافل الدولية والأمم المتحدة على وجه الخصوص.
وجاء في برقية غازيت الموجهة للخارجية الإسرائيلية، بعد لقائه سكرتير رئيس الحكومة البورمية، "إسرائيل إحدى أكثر الدول الصديقة لميانمار، وميانمار دولة ودية للغاية تجاه إسرائيل. وتتعاون الدولتان بشكل وثيق في بالأمم المتحدة". وعلل ذلك بالقول إن "إسرائيل وميانمار هما الدولتان الاشتراكيتان الوحيدتان في آسيا".
وعن استمرار مسيرة الصداقة المتينة والتعاون الوثيق بين البلدين في أروقة الأمم المتحدة، تحدثت برقية بعثها سفير تل أبيب في ميانمار، عنان كالمان، إلى مدير دائرة آسيا بالخارجية الإسرائيلية، عام 1981، وتطرقت إلى اللقاء الذي عقده كالمان مع وزير خارجية ميانمار في حينه، بغية إقناعه بتأييد إسرائيل في التصويت بالأمم المتحدة، قائلا "يبدو لي أن أقوالي نزلت على أذن صاغية".
حاجة ميانمار إلى مساعدات عسكرية
ووفقا لتقرير "هآرتس"، فإن العلاقات الوطيدة بين البلدين نابعة في الأساس من حاجة ميانمار إلى مساعدات عسكرية من إسرائيل لقمع التمرد والاحتجاجات، خصوصا بعد اندلاع حرب أهلية في خمسينيات القرن الماضي، وكذلك حاجة الجيش البورمي إلى تأسيس صناعات عسكرية مستقلة، حيث كانت تل أبيب على قناعة بأن هذا الدعم سيؤثر مستقبلا على مصير ميانمار.
من أجل ذلك، أرسلت وزارة الخارجية الإسرائيلية عام 1952 برقية إلى رئيس الوزراء، ديفيد بن غوريون، بلّغته بسقوط 30 ألف ضحية في ميانمار، وأن 55% من ميزانية ميانمار مخصصة "لأهداف دفاعية"، مما يعني الحاجة لزيادة الدعم العسكري الإسرائيلي وتوريد الأسلحة إلى ميانمار، حيث رأت تل أبيب في الحرب الأهلية هناك فرصة لتعزيز العلاقات وتوطيد مصالحها والدفع بمصالح الصناعات العسكرية الإسرائيلية.
وتؤكد ذلك برقية سرية بعث بها مدير عام وزارة الخارجية، فولتير إيتان، إلى رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، موشيه ديان، مارس/آذار 1954، وذلك عقب رسالة من الجيش البورمي تطالب بدعم عسكري إسرائيلي لقمع التمرد.
تسليح مقابل آلاف الأطنان من الأرز
وأفضى الدعم اللامتناهي الإسرائيلي إلى الجيش البورمي عام 1954 إلى توقيع اتفاقية بين البلدين باسم "اتفاق الأرز"، تعهدت إسرائيل فيه بتسليح جيش ميانمار وتدريبه مقابل تزويدها بآلاف الأطنان من الأرز.
ونصت الاتفاقية حينذاك على أن تزوّد تل أبيب ميانمار "بـ30 طائرة حربية، وأسلحة ووسائل قتالية تضم 30 ألف بندقية وآلاف القذائف والقنابل والأعيرة النارية ومعدات عسكرية أخرى".
لم يتوقف التعاون عند الأسلحة مقابل الأرز، بل كشفت الوثائق عن توجه الخبراء العسكريين والأمنيين الإسرائيليين إلى ميانمار لإجراء تدريبات للجيش هناك، إلى جانب مجيء قادة عسكريين من ميانمار لتلقي تدريبات برية وجوية في قواعد الجيش الإسرائيلي. كما أسست تل أبيب في ميانمار شركات للشحن البحري والسياحة والزراعة والبناء، وذلك بالتعاون مع الجيش البورمي.
وفي إشارة لجدوى الاتفاقية، أبرق الملحق العسكري في السفارة الإسرائيلية بميانمار، شالوم ليفين، عام 1957، إلى مدير عام وزارة الأمن الإسرائيلية، شيمون بيريز، قال فيها إن "البورميين يذكرون دائما المساعدات الكثيرة التي تلقوها منا".
وأضاف ليفين في برقيته "لقد وصل العتاد العسكري في الوقت الذي كانوا بحاجة فيه للعمل ضد المتمردين. وإنهم (ميانمار) يمتدحون معدات الصناعات العسكرية التي لم يجدوا فيها أي خلل. كما حظي جميع أفراد الجيش الإسرائيلي الذين عملوا في ميانمار بالثناء والمديح".
تأهيل لقمع التمرد
ووفق الوثائق، زار شيمون بيريز ميانمار عام 1962، وذلك وبعد 3 أشهر من الانقلاب العسكري في ميانمار، حيث شغل بيريز حينئذ منصب نائب وزير الأمن الإسرائيلي. والتقى قادة المجلس العسكري بميانمار وأبلغهم أن "إسرائيل معنية -كما هي الحال دائما- بأن تكون داعمة لميانمار في أي قضية وموضوع وأي شكل يقرره الجنرال (قائد جيش ميانمار)".
وبعد أسابيع من لقائه بيريز، أمر قائد المجلس العسكري في ميانمار، الجنرال ني وين، بارتكاب مجزرة بحق طلاب جامعيين تظاهروا في يانغون (عاصمة ميانمار آنذاك). وذلك وفقا لبرقية أرسلتها السفارة الإسرائيلية، يوليو/تموز 1962، أكدت فيها على "معلومات تتعلق بإخفاء أجهزة الأمن في ميانمار لعشرات الطلاب".
وخلال قمع الاحتجاجات والمظاهرات الطلابية في ميانمار، أظهرت وثيقة أن الملحق العسكري الإسرائيلي هناك اقترح تأهيل قادة كتائب عسكرية بورمية في إسرائيل، إذ طلب في برقية إلى وزارة الأمن الإسرائيلية أن تكون أرض التدريبات جبلية وتلالية، وعقب اقتراحه تم استقبال وتدريب قادة الكتائب البورميين في سلاح المدرعات الإسرائيلي.
ورغم التقارير العالمية التي تحدثت عام 2017 عن جرائم قتل واغتصاب وتعذيب وعبودية وعنف ضد الأطفال وعمليات تهجير وتدمير لعشرات القرى التي تسكنها أقلية الروهينغا المسلمة، ورغم وصف الأمم المتحدة ما يجري بأنه "تطهير عرقي"، فإن إسرائيل واصلت حتى عام 2018 -ومن دون أي رادع- بيع الأسلحة لميانمار، حتى اضطرت لوقف صادراتها العسكرية عقب ضغوطات وحملات حقوقية وإعلامية دولية.