البث المباشر

الوجودية ونزعة التشاؤم الانهزامية

السبت 2 فبراير 2019 - 09:54 بتوقيت طهران

الحلقة 214

لقد برز المذهب الوجودي في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية افرازاً من افرازات هذه الحرب المدمرة وانعكاساً للمخاوف التي يمكن ان يمنى بها الغرب بأستعمال الاسلحة النووية، وكان الفكر الاغريقي الوثني الموروث والفكر الغربي الحديث المنفصل عن الدين ذا اثر بالغ في تولد الافكار المادية التشاؤمية التي منها الوجودية.
والفلسفة الوجودية جاءت لتناهض قيم الالتزام والفضيلة والعمل والمسؤولية، وتقف لتقول بنبرة عالية‌ لا تنكر وجودك فتصبح مجرد اداة للاخرين، وهي ترفض العقل والحكمة وتهزأ بهما ويرتبط بها موقف الوجودية من العلاقة الزوجية والطلاق وحرية الصداقة المطلقة واهمال شأن الدين كلياً، والانسياق نحو الرغبات والاهواء. ان ازمة العصر هي غربة الانسان الغربي في نظر المذهب الوجودي فهي ليست غير اسم جديد لمضمون التشاؤم القديم القائم في دواخل الفكر الغربي في امد بعيد مع غلبة الطابع المادي الخانق.
ويرى الباحثون ان الوجودية هي اشد درجات التشاؤم كأثر من آثار الالة التي كبلت الانسان وامست وحشاً مدمراً حاول ان يقضي على عقله وقلبه ويجعله آلة صماء ولاشك ان هذا المنحى من التفكير ان هو الا حالة عابرة سرعان ما يتركها الانسان ويتخطاها فهي ليست روحاً بل فلسفة عدمية سلبية تشل في الانسان قدراته على استعمال العقل الى جوار ما تفعله من انكار الخلق والدين. ان التمزق والقلق والخوف من المجهول من ابرز نتائج الوجودية بسبب انفصال الانسان الغربي عن اليقين الديني الذي يملأ العقل والروح ذلك ان هذه الحركة قد عزلت الانسان عن كل ركيزة يمكن ان تهبه الامان والاطمئنان.
من هنا كان انكار الدين مصدراً للعدمية التي تولد انواع القلق والخوف والرعب من المصير، ومنذ انعزلت المجتمعات الغربية عن الدين حلت فيها روح اليأس والقلق والتمزق وفي هذا قضاء حتمي على الانسان وتدمير له، ولن تستطيع دعوة الفلسفة الوجودية الى الانطلاق لتحقيق اللذة ان تكون حلاً للمشكلة فذن الامتلاء والاشباع المؤقت للذة سرعان ما يتطلب اشباعاً آخر وآخر يفقد معه الانسان شعوره بالاطمئنان والرضا والامان.
اجل انه اذا كانت الغاية ان يحقق الانسان وجوده فأن ذلك مقرر في الاسلام في اطاره الطبيعي وضوابطه الاصيلة التي تحمي وجود الانسان وكيانه، وليس للانسان ان يطلق العنان للذاته ومتعه ويتمرد على اوضاع المجتمع الصحيحة او القيم الاخلاقية لانه يكون بذلك قد خرج عن رسالته الحقة التي جاء الى هذه الارض من اجلها، والوجودية بهذا تكون فلسفة للانحلال والفوضى والعدم.
كشفت دراسات الباحثين الى ان الوجودية قد قدمت للفكر البشري في العصر الحديث ازمات الغربة والغثيان والعبث والتمرد والانحلال، اشار كولن ولسن في كتابه اللامنتمي الى ان الغربة مرض متصل بالتصدع الذاتي او انشقاقها بسبب عدم توائمها او انسجامها مع المجتمع الذي تعيش فيه، وان التصدع بين الذات والجماعة مشكلة اجتماعية تقوم على شعور الفرد بالانفصام عن مجتمعه وقال ان الرومي القديم على الرغم من حيرته وشكه في سبيل العثور على الحقيقة لم يفقد الايمان بها وهو لم ييأس اليأس التام، اما الغريب في هذا العصر فهو لا يفهم ما يعنيه الناس بالحقيقة فهو انسان عاجز عن الايمان بوجودها، فالعالم في رأيه عالم مفتقد للحقيقة، عالم زائف قائم على الفوضى واللامعقول وهما وحدهما في نظره الحقيقة. ويعتقد كثيرون ان العقل بمفرد غير قادر على بلوغ الحقيقة وراء هذا العالم، ومن هنا جاءت الغربة التي هي ازمة الانسان الذي فقد ايمانه بالله تعالى ولم يجد ما يعوضه عن هذا النقص الكبير، انها ازمة العقل المسيطر على الانسان الذي اضعف مركز الاشعار فيه وهو العقيدة الدينية. ويضيف كولن ولسن انه ليس الانسان بقادر على ان يجلو عن نفسه ما يعتريه من صدأ او يغلق احساسه من سماكة الا اذا ظفر بشيء من السلام النفسي والهدوء الروحي وهو يدعو الى حلول جزئية فيقول ان تحرير الانسان يجب ان يبدأ اولاً بتحريره من فكرة الخطيئة الاولى التي تسيطر على الانسان الغربي والتي تقف حائلاً بينه وبين رؤية الحقيقة.
ان اخطر اما تقدمه الوجودية للانسان المعاصر هو انكار كل محصول البشرية من التجارب والقيم فهي لا تأبه به بل تنادي بضرورة تجاهله، وان يبدأ الانسان من جديد كالانسان البدائي فضلاً عن احتفار الوجودية للعلم وانكار قيمته ولعل اسوء ما يتعارض مع طبيعه الحياة ومع فطرة الانسان شجبها للدين وانكار الوجود الالهي حيث لا تجد لها اي قاعدة تلتقي مع حقيقة الانسان ووجوده وذاته،‌ ثم هي تجعل الفرد منعزلاً من الوجود العام لا جزءاً منه، اما اخلاق الوجودية فهي الاخلاق المريضة القائمة على القلق والقنوط والتشاؤم والرغبة في الموت والغموض والانانية المفرطة، اجل ان هذه الفلسفة ليست حلاً للمشكلة الغربية فهي اعتراف باليأس وتعبير للفراغ الروحي المخيف الذي تولد لدى الانسان الغربي بسبب الانفصام بين الروح والمادة وبين الدنيا والاخرة، هذا اليأس والتمزق النفسي انما ولدهما انحواء الروحي والكسل الذي تعاينه الحضارة المعاصرة نتيجة الاسراف في الرفاهية والترف حيث لا تعرف المجتمعات الان غير اللذات المسرفة والمفاسد والخمر والسموم.
هذه الحالات المرضية الخطيرة التي وقعت فيها الحضارة الغربية المادية وافرازاتها كالوجودية ليست بالامر الغريب ذلك ان الانسان حين يخرج عن طريق الله تعالى ومنهاجه فأنه يصاب بالحيرة والقلق الذي يجعله يقتل نفسه حياً، حاول الانسان الغربي ان ينحي عنه كل ما هو الالهي وان ينظر من خلال العقل والعين فلم تحقق جولته هذه خلال القرون الطويلة الى مزيد من الخسارة والاندحار وهو الان في كبرياءه عاجز عن العودة الى الدين بعد ان هجره وذلك انه يعود الى فلسفات الهنود والبوذية وغيرها متخطياً الاسلام الذي يقف شامخاً كالمنار امام حيرة الانسان المعاصر وتمتد به الحيرة دون ان يجد منقذاً الا في منهج الدين الحق. اما الذين تزدهيهم الوجودية ويعجبون بها فأنهم ينساقون وراء اهواءها فحسب حيث يرون فلسفة تبرز الانحراف بدعوى القيم وتعفو الانسان من القيم الاصيلة وتطلق له عنان الانانية، ان الاسلام يعالج قضايا الانسان معالجة متوازنة فكرية ونفسية دونما طغيان لقيمة على قيمة دون تراجع لقيمة امام اخرى، ولقد جاء الاسلام نصراً باهراً للانسان على آلامه وثورة نفسية عظمى حققت له تواجده الذاتي وشيدت امامه اروع امل في الخلود المطلق في النعيم.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة