فكانَ الباعثُ للإمام الحسنِ (ع) على اختيارِ طريقِ الصلحِ والمهادنة هو ما تقتضيه طبيعتُه من الميل للموادَعة، وكان الباعثُ للثورة لدى الإمامِ الحسين (ع) هو طبيعتَه التي كانت تتَّسمُ بالميلِ إلى التوثُّبِ والمناكفة، فخيارُ الصلحِ وخيارُ الحربِ قد نشئا عن طبيعتين تميلُ إحداهما للموادعة والأخرى للتمرُّد، كذلك زعَم بعضُهم، وفيما زعَموه وأرجفوا به جنايةٌ مستبشَعة، وتجاوزٌ مستهجنٌ لمقتضياتِ الحقائقِ التأريخيَّة.
فلم تكن الثورةُ ناشئةً عن مِزاجٍ يميلُ إلى التمرُّد والمناكفة كما لم يكنِ الصلحُ ناشئاً عن هوىً في النفس وإيثارٍ للعافية والموادعة، بل كان كلٌّ من الخيارين قد نشئا عن وعيٍ متناهٍ لمقتضياتِ الظروف، والتزامٍ كاملٍ بالتكليفِ الشرعي، ومعرفةٍ تامَّةٍ بما يقتضيه الأمرُ الإلهي،
فالحسنُ والحسينُ (عليهما السلام) إمامان ينطلقانِ من منطلَقٍ واحد، ويغترفان من منهلٍ واحد. ولو اتَّفق أنْ تبادلَ كلٌّ منهما ظرفَ الآخر لاختار الإمامُ الحسينُ (ع) طريقَ الصُلح، واختارَ الإمامُ الحسنُ(ع) طريقَ الحربِ والمواجهة.
ولكي يتَّضحَ ذلك لابدَّ من بيان ما هي الظروف التي اقتضت ودفعت بالإمام الحسن (ع) إلى أنْ يتَّخذ خيارَ الصلحِ والمهادنة، وما هي الظروفُ التي اقتضت أنْ يتَّخذَ الحسينُ الشهيد (ع) خيارَ الثورةِ والمواجهةِ والحرب.
إذا وقفنا على الظروفِ التي اكتنفت كلا الخيارين فسيتَّضحُ أنَّ كِلاهما نشأ عن منشأٍ واحد، وقبل أنْ نتحدَّثَ عن الفوارقِ بين ظرفي الإمامين (ع) نرى من المناسب التأكيدَ على عددٍ من المقدِّمات.
معصومون عن التهاونِ والخطأ في تقدير الأمور:
المقدِّمة الأولى: هي أنَّه نحن -الشيعةَ الإماميَّة- لا نحتاجُ إلى البحث عن مشروعيَّة موقفِ الإمام الحسن (ع) من الصلح وعن مبرراته كما أنَّه لسنا بحاجةٍ للبحث عن مشروعيَّة موقفِ الإمام الحسين (ع) من الثورة على السلطةِ الأمويَّة، بمعنى أنَّه لا ضرورةَ لدينا تقتضي البحثَ عن الأدلَّة التفصيليَّةِ المصحِّحة لموقفِ الإمامِ الحسن (ع) من الصلح كما أنَّه لا ضرورة عندنا للبحثِ عن الأدلَّة التفصيليَّة التي اقتضتْ أنْ ينهضَ الإمامُ الحسينُ (ع) في وجهِ النظام الأمويّ،
وذلك لأننا نعتقدُ بعصمةِ الأئمة الأطهار (ع) وأنَّ كلَّ موقفٍ يتَّخذونه -وإنْ خفيَ علينا وجهُهُ ومنشأه- فهو الحقُّ الحقيقُ بالاعتماد، وكلَّ طريق يسلكونه فهو الذي يتعيَّنُ سلوكُه، فلا يعرِضُ الخطأُ والاشتباهُ على شيءٍ ممَّا يفعلونَه، فهم معصومون مُنزَّهون عن التهاونِ في أمر الله تعالى، ومُنزَّهونَ عن الغفلةِ والخطأ في تقديرِ الأمور، عصَمهم اللهُ تعالى لأنَّه قد جعل منهم هداةً لعبادِه، وحماةً لدينِه، وأدلَّاءَ على أحكامِه وشريعتِه، فكلُّ ما يتَّخذونَه من مواقفَ تكونُ نابعةً عن بصيرةٍ للواقع كما هو، وعن معرفةٍ تامَّةٍ بالحكم الإلهي وموضوعاتِه.
ذلك هو ما نعتقدُه في أئمةِ الهدى(ع) تبعاً لما قامَ عليه البرهانُ القطعيُّ وما نصَّ عليه القرآنُ المجيدُ والسنَّةُ الشريفة، وعليه فنحنُ حينما نتحدَّثُ عن مُبرِّرات الخيار الذي اتَّخذه الإمامُ الحسنُ (ع)، أو الخيارِ الذي اتَّخذه الإمامُ الحسينُ (ع) فإنَّما نتحدَّثُ عن ذلك لأجل أن نُثبتَ للآخرين صوابيَّةَ الموقفِ الذي اتَّخذه كلٌّ منهما، وإلَّا فنحن نعتقدُ يقيناً بأنَّ مواقفَهما (ع) مطابقةٌ لمقتضياتِ الأمرِ الإلهيّ.
سيرة الرسول (ص) مع خياري السلم والحرب:
المقدِّمة الثانية: هي أنَّ اتِّخاذَ طريقِ الصلحِ والمهادنةِ لا يكونُ بالضرورة أمراً سلبياً أو مرجوحاً، كما أنَّ اتِّخاذَ طريقِ الحربِ والمواجهة لا يكونُ بالضرورة أمراً إيجابياً أو راجحاً.
فالصلحُ له ثمراتٌ وله فوائد إذا ما كان هو المناسبَ لمقتضياتِ الظروف، كما أنَّ الثورةَ كذلك تكونُ لها ثمراتٌ إذا ما كانت هي المناسبةً لمقتضيات الظروف.
لذلك اتَّخذ الرسولُ الكريم (ص) خيارَ الصلحِ والمهادنة، كما اتَّخذ خيارَ المقارعةِ والمواجهة، فقد كان رسولُ الله (ص) ملتزماً بخيار المهادنة والمداراة لأكثرِ من عقدٍ من الزمن حينما كان في مكة الشريفة، فكانَ يُسايسُ قريشاً، ويُداريهم، ويَحرِصُ على أنْ لا يدخلَ معهم في مواجهةٍ، رغمَ نزَقِهم وقسوتِهم وبطشِهم بأصحابِه، فكان يُصِرُّ على خيارِ المهادنة، وكان يدعو الى اللهِ عزَّ وجل بالكلمةِ والموقف دون أنْ يشهِرَ في وجهِ أحدِهم سيفاً؛ ذلك لأنَّ خيارَ المهادنةِ حينذاك كان هو الخيارَ الأحظى عقلاً والأكثرَ نفعاً.
وبعد أكثرِ من عقدٍ من الزمن، وبعد أنْ هاجرَ الى المدينة المنورة ظلَّ على ما كان عليه من عدمِ اختيارِ طريقِ المقارعةِ والمواجهة لمشركي قريش، وكذلك اعتمد ذاتَ الخيار مع سائر القبائل والديانات طريقاً ووسيلةً لنشر الدعوة في ربوعِ الجزيرةِ العربية،
ثم إنَّه وبعد أنْ اقتضت الظروفُ وتهيأتِ الأسبابُ وقويتْ شوكةُ الرسولِ (ص) وتمادى المشركونَ في غيِّهم وبغيهم لم يجدْ من سبيلٍ لحمايةِ مُنجزات الدعوة سوى اتِّخاذِ خيارِ الحرب والمقارعة، فقد كان حينها هو الخيارُ الكفيلُ بحماية الدعوةِ وأتباعِها من بغي المشركين، ولذلك نزل القرآنُ الكريم ليؤكِّدَ على أنَّ هذا الخيار أصبح هو الخيارَ المناسبَ لتلك المرحلة،
قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾(3) حينها بدأ الرسولُ (ص) في انتهاج خيار الدفاعِ والمناجزة، إلَّا أنَّه لم يكن الخيارَ الأخير، فبعد أن كثُرت الحروبُ والمواجهاتُ والسِّجالُ بينه وبين قريش، واقتضتِ الظروفُ أنْ يعقدَ معهم صُلحاً، فإنَّه لم يتلكَّأ، ولم يتوقف بل اتَّخذ هذا الطريق بكلِّ حزم وجرأة كما كان قد اتَّخذ طريقَ المقارعةِ والمواجهة بكلِّ حزم وجرأة،
فصالحَهم صُلحَ الحُديبيَّة على أنْ لا يُقاتلهم عشرَ سنين، والتزمَ بالشروط، فلم يدخل بعده معهم في مواجهة إلَّا بعد أنْ نقضوا الشروط التي أُبرمتْ بينه وبينهم. تلك هي سيرةُ الرسولِ الكريم (ص) مع خياري السلم والحرب، فلم يكن السلمُ والموادعة خياراً أبديَّاً كما لم تكنِ الحربُ خياراً أبديَّاً.
سيرةُ عليٍّ (ع) مع خياري الحرب والسلم:
كذلك هي سيرةُ الإمامِ عليٍّ (ع) مع الخيارين، فقد كان خيارُ السلم والموادَعة هو خيارَه الذي اعتمده قُرابةَ الثلاثينَ سنة رغم قسوتِه ومرارته وشدَّةِ وطئه على قلبِه ومشاعره، وقد صرَّح في مواضعَ عديدةٍ بذلك، وعبَّر عن مرارة هذا الخيار ومناسبته في ذات الوقت لمقتضى الحكمةِ والمصلحةِ الدينيَّة،
فكان يقولُ -كما في نهج البلاغة-: “.. لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، واللَّهِ لأُسْلِّمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً، الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِهِ..”(4) وقال في خطبتِه الشقشقيَّة: “.. فرأيتُ أنَّ الصبرَ على هاتا أحجى، فصبرتُ وفي العينِ قذى، وفي الحلقِ شجى، أرى تُراثي نهبا..”(5) فهو قد التزمَ بهذا الخيار رغم شعورِه بالمرارة والغَبن لغمطِهم الحقَّ الذي هو له دونَهم.
وحين تهيأتِ الظروفُ وتمكَّن من المباشرةِ لدور الإصلاحِ والتقويمِ للأمَّة ومحاولةِ العودة بها الى مسارِها الصحيحِ الذي أرادهُ اللهُ عزَّ وجلَّ وأراده رسولُه لها (ص) قام وبكل حزمٍ وبكلِّ رباطة جأش قائلا: “.. الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، والْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ..”(6)
وقال (ع): “ألا إنَّ كلَّ قطيعةٍ أقطعها..، وكلَّ مالٍ أعطاه من مال الله، فهو مردودٌ في بيت المال، فإنَّ الحقَّ القديم لا يُبطلُه شيء.. فإنَّ في العدل سَعةً، ومَن ضاق عنه الحقُّ فالجورُ عليه أضيق”(7) وكان قد صرَّح بمبرِّر اعتماده لهذا الخيارِ الجديد المتَّسم بالمصارمة والمواجهة بقوله (ع): “.. لَوْلَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، ومَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا..”(8).
فقوله (ع): “لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ..” بيانٌ لمنشأ اقتضاء الظروف لمباشرةِ دورِ الإصلاحِ لِما اعوجَّ من مسارِ هذه الأمَّة.
إذن فقد اتَّخذ عليٌ (ع) كلا الخيارين، وكان رسولُ الله (ص) قد اتَّخذ كلا الخيارين، وكانت الغايةُ في كلا الموردين واحدة وهي الحمايةُ لدين الله، والإعلاءُ لكلمتِه، والرعايةُ لعباده.
موقفُ الحسين (ع) من الصلح:
وهكذا فإنَّ الإمامَ الحسين (ع) كان قد اتَّخذ كلا الخيارين أيضاً، فخيارُ الصلح والمهادنة قد اتَّخذه الحسين (ع) بمعيَّةٍ الإمامٍ الحسن (ع) فلم يكن خيارُ الصلح والموادعة خياراً خاصَّاً بالإمام الحسن (ع) بل كان خياراً معتمَداً من قبل الإمامين الحسنِ والحسين (ع) فلم يكن الحسنُ (ع) وحده الذي اختصَّ بخيار السلم والموادعة والصلح،
فالحسين (ع) كان معه أيضاً، ولذلك وبعد أنْ رحل أبو محمدٍ الحسنُ (ع) الى ربِّه جلَّ وعلا ظلَّ أبو عبدالله الحسينُ (ع) ملتزماً بهذا الخيار، وكان يأبى أنْ يخرجَ على النظام الأموي التزاما بعقد الهُدنة، وكانت كتبُ الكوفةِ تأتيه متواليةً تُحفِّزُه على الخروج وإعلان الحرب، وكان يأبى ويقول: “إنَّ بيننا وبين هذا الرجلِ عقدا”(9) ثم كان يأمرُ شيعته بأنْ يكونوا أحلاسَ بيوتِهم(10)،
إذن فالحسينُ الشهيد (ع) قد اعتمد خيارَ المهادنةِ والصلح، وذلك يؤكِّد ما ذكرناه من أنَّ اختياره في عهد يزيد للحرب لا يُعبِّر عن مِزاجٍ يختلفُ عن المزاج الذي كان عليه أبو محمَّدٍ الحسنُ (ع) فلم يكن المنطلَقُ والباعثُ لاعتماد كلٍّ من الخيارين سوى ما تُمليه وتفرضُه مقتضياتُ الوظيفةِ الشرعيَّة،
فمعاذَ اللهِ أن يكون للهوى والمزاج واختلافِ الطبائع أدنى دورٍ فيما كانا يتخذانِه من خيار كما هو الشأن عند سائر أئمةِ أهل البيت (ع) فمواقفُهم جميعاً على اختلاف صورها تنشأُ محضاً عن الحِرصِ الشديد على الدين ومقدَّراته، وتستهدفُ محضاً الرعايةَ والذودَ عن هويَّته ومعالمِه ومقاصدِه وغاياتِه، فذلك هو مُنطلقُهم وإنْ اختلفتْ مقتضياتُه.
الحرب هو القرار الأول الذي اعتمده الحسنُ (ع):
المقدِّمة الثالثة: هي أنَّ الإمامَ الحسنَ (ع) هو أيضاً قد اعتمد طريق المواجهة فمنذُ أنْ بايعه المسلمون بعد استشهاد الإمام علي (ع) كان أوَّلُ قرارٍ قد اتَّخذه هو التعبئةَ للحرب، ثم أمر مَن تعبَّأ من أهلِ الكوفة بالمسير الى النُخيلة وهي المعسكرُ الذي يُراد له أنْ يكون مُنطلقاً لجيش العراق، وبعثَ بطلائعَ منه إلى الموقع الذي يُنتَظرُ أنْ يكون موضعاً للمواجهة مع جيش الشام،
فكان القرارُ الأولُ هو الحربَ والمواجهة إلا أنَّ الخياناتِ المتواليَّة مِن قادة الجُند وزعماءِ العشائر، وتخاذلَ الناس وتلكؤهم عن الانضمام لصفوفِ الجيش وتسرُّبَ الكثيرِ ممَّن كان قد انضمَّ إليه حال دون أنْ يستمرَّ الإمامُ (ع) في اعتمادِ هذا القرار فلم يكن مع الإمام الحسنِ (ع) من الجُندِ والقادةِ العسكريين ما يكفي لخوضِ المعركةِ فضلاً عن حسمِها.
فالإمامُ الحسنُ (ع) لم يعتمدْ خيارَ الصلحِ والمهادنة لأنَّ ذلك هو المناسبُ لطبيعة شخصيَّته -كما يزعم البعض- فقد خاضَ الإمامُ الحسنُ (ع) حروباً ثلاثة، وكان قد أبلى فيها بلاءً متميِّزاً، فكان موقعُه في الصفوفِ الأماميَّة، ومَن يقفُ على يوميَّات صفِّينَ وأحداثِ يومِ الجمل، وحربِ النهروان يعرفُ أنَّ الإمامَ الحسن (ع) كان رجلَ حربٍ كما كان رجلَ سِلْم.
ثمرات الصلح:
المقدِّمة الرابعة: وهي التأكيد على أنَّ الصلح ليس خياراً مرجوحاً دائماً، بل قد يكونُ كذلك، وقد يكونُ خيارُ الصلحِ هو الخيارَ الأجدر بالاعتماد إذا كان هو المناسب لمقتضيات الظروف، فقد تترتَّبُ على الصلح آثارٌ وثمرات لا يُمكن تحصيلُها بالحرب إلا أنَّ الإدراكَ لذلك لا يكون إلا لذوي البصائر والنظرِ الثاقِب الذين ينظرون الى ما وراء الأمور،
فقد يُساهمُ الصلحُ في تقويةِ شوكة المؤمنين، كما قد ساهمتِ المهادنةُ والمداراةُ أيامَ رسول الله (ص) في تقويةِ شوكة المؤمنين، فلو اختار الرسولُ الكريم (ص) خيارَ المقارعة والمواجهة من أوَّلِ الأمر لكان ذلك مُنتجاً للإجهاز على دعوتِه في مَهدِها، ولهذا اعتمدَ طريق المداراة،
وبذلك قويت شوكةُ الإسلام وأخذ يمتدُّ في الأرضِ ويتجذَّر الى أنْ بلغ مرحلةً يصعبُ معها استئصالُه، إذن فالصلحُ قد يُساهمُ الى حدٍّ كبير في تقوية شوكة المؤمنين، وعندئذٍ تكون ثمة فرصةٌ لتعبئةِ القوى، وسدِّ الثغرات ومواطنِ الضعف، ولولا الصلحُ لما أمكن ذلك، إذ أنَّ العدوَّ لن يتركَ لك فرصةً عندئذٍ، إذا كنتَ في خطِّ المواجهةِ معه وأنت ضعيف، فإنَّ غايتَه معك ستكونُ الاستئصال،
كما أنَّ الصلحَ قد يُساهم والى حدٍّ كبير في التحفُّظ على بقايا مقدَّرات المؤمنين، فكان صلحُ الحسنِ (ع) قد ساهم في التحفُّظ على البقية الباقية من صفوة رجال عليٍّ (ع) والذين كان وزنُهم وزنَ الأمَّة، ولو كان خيارُ الحرب هو الخيارَ الذي اتَّخذه الحسنُ (ع) لاستُأصلت هذه البقيةُ الباقية، وعندئذٍ لا تُرفعُ للإسلام راية،
وذلك هو ما صرَّحَ به الإمامُ الحسنُ (ع) فكان يؤكِّد أنَّ غرضَه من الصلح هو التحفُّظ على دماء البقية من خيار هذه الأمَّة، لأنَّه ببقائهم يستمرُّ خطُّ الرسالة ويكون ثمة بصيصُ أملٍ لتصحيح المسار، مسارِ الأمة الذي أراد له بنو أمية أنْ ينحرفَ عن الخط القويم، هؤلاءِ الرجالُ كانوا منتشرين في الأرض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعبئون القوى، ويحشدون الناس ويكشفون زيفَ السلطة، فلم يكن بمقدورِ الإمامِ الحسنِ (ع) أنْ يفعل كلَّ ذلك لو استُأصلت هذه البقيةُ الباقية أمثال حجر بن عدي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعدي بن حاتم، وكميل بن زياد وغيرهم من الأخيار كميثم التمار ورشيد الهجري وغيرهم.
الصلح كشفَ زيفَ العدوِّ ومهَّد للنهضة:
ومن الأمور التي يُساهم الصلحُ في تحقيقها هو كشفُ واقعِ العدو، فلم يكن زعيمُ البيتِ الأموي عدوَّا سهلاً، فكان له تأريخ، وكانت له (شرعيةٌ) مزعومةً يتدثِّرُ بها، فقد كان ثقةَ الخلفاء، كان الخليفةُ يعزلُ في كلِّ سنتين جميعَ ولاته على الأمصار ويُعيِّن غيرَهم إلَّا زعيمَ البيتِ الأموي فلم يكن يعزلُه،
فكان ذلك وساماً يتزيَّنُ به، فهو معتمَدُ الخليفة وموضعُ ثقته، وكان علاوةً على كلِّ ذلك يعرفُ كيف يتظاهرُ بالنُّسُك والإيمان والتقوى، والحِرصِ على مقدَّرات الأمة، وكان يسوسُهم بالبذل والحلم، ويعتمدُ المكرَ والخداعَ وسيلةً في تمرير أهدافِه، كلُّ ذلك عزَّز من موقعِه بين أتباعِهِ وبين البسطاء من الناس وهم السوادُ الأعظمُ من هذه الأمَّة، فلم يكن هذا الرجلُ عدواً سهلا، هذا الرجلُ يحتاجُ الكشفُ عن زيفِه الى وقتٍ ليس بالقصير وإلى وضعِ مزاعمِه على المَحكِّ، ولم يكن ذلك إلَّا بواسطةِ الصُّلح فبهِ يُتاح للأمةِ أنْ تقفَ على دخيلتِه وواقعِه،
فالصلحُ وإنْ كان خيارا مرًّا إلا أنَّ مِن نتائجه، بل ومن أعظمِ نتائجِه هو الكشفُ عمَّا وراءَ القناعِ المزيَّف الذي كان يتمظهرُ به، فذلك هو ما وقع بعد الصلح، فبعد أنْ استتبَّ له الأمرُ، وأمسكَ بزمامِ الأمور ولم يبقَ في البين ما يخشى منه صعدَ المنبرَ ليقولَ: “ما قاتلتُكم لتصلَّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجُّوا، وإنِّي لأعرفُ أنَّكم تفعلونَ ذلك، إنَّما قاتلتُكم لأتأمَّرَ عليكم!”(11) وبذلك ذهبت كلُّ الشعاراتِ البرَّاقةِ التي كان يرفعُها أدراجَ الرياح.
وقال في موردٍ آخر: “ألا إنَّ كلَّ شيءٍ أعطيتُ الحسنَ بن عليٍ تحتَ قدمي هاتين لا أفي به”(12) فلم يعُد يخشى من الجهرِ بنكثِ العهد ومن التصريح بأنَّه كان يمكرُ ويُخادعُ المسلمين، ثم إنَّه وبعد أنْ ملك زمام الأمور قتل الأبرارَ، والأخيارَ، والعبَّادَ، والنسَّاكَ الذين يقومون الليل، ويقرؤون القرآن، ويُعلِّمون الناسَ أحكامَ اللهِ تعالى!!
أمثال حجر بن عدي وأصحابِه وعمرو بن الحمق الخزاعي والذي كان رأسه أولَ رأسٍ يُحملُ في الإسلام على خشبةٍ ويُدارُ به في الحواضر ثم حمل رأسَه إلى زوجته التي كانت في الحبس فألقي في حجرها، وكان أشدُّ الناسِ بلاءً هم أهلَ العراقِ عامَّة وأهلَ الكوفة خاصَّة، فكان زيادُ ابن أبيه الوالي على العراق من قبل البيت الأموي يقتل الناسَ على الظنَّة والتهمة ويصلبُ الكثيرَ منهم على جذوع النخل ويسملُ عيونَهم ويبترُ أطرافَهم بل قد يصلبُ الرجلَ في مشهدٍ من الناس عارياً بل وثَّق التاريخُ صلبُهم لامرأةٍ عارية، هذا وقد اعتمد زيادُ بن أبيه سياسة التهجير القسري فهجَّر الآلاف إلى خراسان وإلى عمان.
كان يبعثُ بالسرايا الى كلِّ بقعة من الحاضرة الاسلامية لم تقدِّم له رسومَ الطاعة فيقتلُ أجنادُه مَن تنالُه أيديهم من رجالها ويُمثِّلون بجثامينهم وقد يَحرِقونها، ويسلبونَ أموالَهم حتى ما كان منها على صدورِ النساء، ومن كلِّ ذلك وشبهِه اشتهرَ بين الناس صنيعُه وعرفوا حقيقةَ هذا الرجل، وأنَّه ليس جديراً بأنْ يكون خليفةً على المسلمين،
ثم لم يهدأ له بال ولم يستقرَّ له قرار حتى نصَّب عليهم قسراً رجلاً كان مشهوراً بين المسلمين بالفِسقِ والفجورِ وتركِ الصلاة وشربِ الخمر والعبثِ واللعبِ مع القيان والقرود، ولهذا ومثلِه عرف الناسُ واقعَ هذا الرجل، وبذلك مهَّد الإمامُ الحسنُ (ع) بصلحِه للحسين (ع) لينهضَ بالثورة، فلولا الصلحُ لما أُتيحَ للأمةِ والتأريخ استيعابُ مبررِّات نهضةِ الحسين (ع).
ونستكملُ الحديثَ حولَ ذلك فيما بعدُ إنْ شاء اللهُ تعالى.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(13).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
----
الهوامش
1- الكافي -الكليني- ج1 / ص139، 140 من خطبةٍ لأمير المؤمنين (ع).
2- سورة الطلاق / 5.
3- سورة الحج / 39.
4- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص124.
5- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص32.
6- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص89.
7- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص46.
8- نهج البلاغة -خطب الإمام علي (ع)- ج1 / ص36.
9- الأخبار الطوال -الدينوري- ص222.
10- الامامة والسياسة -ابن قتيبة الدينوري، تحقيق الزيني- ج1 / ص142، الأخبار الطوال -الدينوري- ص221.
11- المصنف -ابن أبي شيبة- ج7 / ص251، كشف الغمة -الاربلي- ج2 / ص164.
12- شرح نهج البلاغة -ابن أبي الحديد- ج16 / ص46، مقاتل الطالبيين -أبي الفرج الأصفهاني- ص45.
13- العصر: 1-3.
المصدر: حوزة الهدى للدراسات الإسلامية