أعجب لأناس من أمة تنجب أمير الصيداوي وإبراهيم النابلسي وشربل أبو ضاهر وتتلكأ في مقاومة عدو خلق من الأوهام حصناً له ومن التهويل والحرب النفسية عدة يستخدمها ضد صغار النفوس والعقول ليسيروا في كنف سرابه الذي لم يوصلهم خلال عقود عديدة إلا إلى الخيبة والتراجع والانحدار.
أعجب لأناس من أمة يعمل شاب مقدسي في الخامسة والعشرين من عمره على حيازة بضع طلقات كي ينتقم لكرامة هذه الأمة عارفاً أن حياته هي الثمن، بينما لا يصل المعنيون في الشأن السياسي إلى الاستنتاج نفسه الذي توصّل إليه هو وأمير الصيداوي وإبراهيم النابلسي وعشرات الشهداء الذين قضوا قبلهم، والأسرى الذين يخوضون معاركهم المشرّفة رغم أصفاد الاحتلال، وكل الرياضيين والشرفاء الذين رفضوا اللعب مع لاعب صهيوني، رغم ترويج البعض التطبيع والعلاقات مع المحتل الغاشم.
ما يثبته هؤلاء الشهداء الأبطال ومن سبقهم في قائمة الشرف الطويلة هو أن القوة ليست في السلطة ولا المال ولا المراكز الممنوحة للبعض، لسبب أو لآخر، ولكن القوة هي التي يصنعها الإنسان بضميره ووجدانه وقراره المستقل، رغم كل القيود والحواجز والإرهاب والعقبات التي لا تُحصى، كما يثبت هؤلاء الأسرى أن الحرية ليست فقط حرية الجسد، ولكنها حرية الضمير وحرية العقل والفكر؛ فكم نرى مَن نحسبهم أحراراً وهم مكبّلون بأوهام العدو الذي لا يقهر، وبإملاءات فرضها عليهم قصور معرفتهم وضعف إيمانهم بقضاياهم وبأنفسهم، فيما نرى مكبّلين في سجون كيان الاحتلال يصنعون المعجزات لأنهم مؤمنون بأنهم أحرار ويمتلكون زمام قرارهم المستقل، ولا يخشون في الله لومة لائم.
المقارنة بين هذين الفريقين: فريق الشرف والبطولة من ناحية وفريق الخذلان والخنوع من ناحية أخرى ضرورية، لأن العدو عمِل جاهداً من خلال آلته الإعلامية الشرسة على خلق حالة من التماهي بين الفريقين، وتشويه المفاهيم والمصطلحات، كي يعتقد البعض أن لا طائل من المقاومة، وأن الحالات الفردية من التضحية والشهامة والشهادة هي ضرب من الجنون، وأن الحكمة هي أن يتدبر كلٌ أمره وأمر أسرته، فهذا ليس عصر القضايا والتضحيات، بل عصر الواقعية والبراغماتية والاستسلام للعدو، والتبريرات موجودة، مثل إنقاذ الأهل والمقرّبين.
إن التضحيات الفردية التي نشهدها والمواقف المناهضة للاحتلال مهمة جداً، لأنها تخلق وعياً جمعياً بضرورة مقاومة هذا الاحتلال، ولكنّ واجب القادة هو أن يضعوا استراتيجيات وآليات العمل التي تستثمر كل عمل مقاوم وكل تضحية ليصبّا في خدمة القضية الأساس اليوم وغداً وفي المستقبل.
لقد صدق والد إبراهيم النابلسي الذي قال إن إبراهيم كان مطارِداً لا مطارَداً، وصدقت والدته حين قالت إن إبراهيم انتصر، وأي انتصار أبهى وأعظم من انتصار شاب في العشرين من عمره محكوم بواقع احتلال بغيض أن ينتصر على كيان الاحتلال بجيوشه واستخباراته وكل أدواته القمعية الشرسة، وأن لا يخشى الموت، وأن يوصي أهله في فلسطين بأن لا يدعوا البارودة من أيديهم؟ وأي انتصار أعظم من تصريح والدة إبراهيم بأنه هو الذي كايد الاحتلال، وبأن ستين مستوطناً وإرهابياً صهيونياً اجتمعوا على محاصرة إبراهيم؟ أي خوف يعتريهم ممّن فهم قضيته على حقيقتها وآمن بها وقرّر أن يدفع حياته ثمناً لكرامة فلسطين وكرامة أمة، كي لا يظن العدو أن هذه الأمة استكانت وخضعت بسبب خنوع واستسلام البعض من حكامها البؤساء.
وبهذا فإن أمير الصيداوي وإبراهيم النابلسي يُحيِيان إرث يوسف العظمة الذي ودّع ابنته وكفّلها لأصدقاء له، وسار إلى معركة يعلم علم اليقين أنه سوف ينال شرف الشهادة فيها، ولكن كي لا يقال في التاريخ إن قوات غورو قد دخلت دمشق من دون مقاومة.
لقد خلّد التاريخ اسم يوسف العظمة وحفظت وصيته الأجيال المتعاقبة، ولكن أين هو ذكر الذين تخاذلوا وتعاونوا مع قوات الاحتلال والقهر والطغيان؟ كما خلّد التاريخ اسم كل من ناضل بشرف من أجل قضيته، بينما ذهب في غياهب الذل والنسيان اسم كل من تواطأ وباع قضيته من أجل مال أو مركز أو مكتسبات مهما كان نوعها ودرجة إغرائها.
أما تذرّع البعض بأن الأكثرية تسير في هذا المسار، فله أن يعود إلى القرآن الكريم الذي لم يمتدح الكثرة أبداً، بل امتدح القلّة في كلّ مفصل وسورة. كون البعض أو حتى الكثيرين يتبعون مساراً ما، فهذا لا يؤهّل هذا المسار لأن يكون محقّاً أو أن يكون صحيحاً يجب اتباعه.
لو أجمع الكثيرون على أن يغيّروا الحق إلى باطل لما تمكنوا أبداً، ولو أجمع الكثيرون على أن يقلبوا الباطل حقاً لما تمكّنوا أبداً.
إذا كان العدو الصهيوني قد استهدف حركة الجهاد الإسلامي في غزة، كما ادّعى، محاولاً بث الفرقة بين الصفوف، فلماذا أودى بحياة 49 فلسطينياً، اثنان وعشرون بينهم مدنيون، وبينهم سبعة عشر طفلاً وأربع نساء، مع أن كل الفلسطينيين مدنيون، حتى من يحمل السلاح منهم، لأنهم مقاومون لاحتلال أجنبي غربي بغيض.
لاشك في أن كيان العدو في هذا العدوان قد استهدف قادة الجهاد الإسلامي، لأن هؤلاء قد حسموا أمرهم بأن قتال هذا العدو هو الخيار الوحيد المتاح والمقبول، وهذا أكثر ما يخشاه هذا العدو. رغم امتلاكه كل أساليب الفتك والإجرام وأدواتهما، فقد كان يخشى صوت شيرين أبو عاقلة فقنصها، لأنه يخشى ثقافة المقاومة وتجذّر هذه الثقافة في نفوس الأجيال وضمائرها، ويخشى كل كلمة حق وكل فكرة مقاومة تغرسها الأمهات في نفوس أطفالهن، ولذلك فهو يعتمد سياسة القتل والغدر والإرهاب والتهجير من جهة، وسياسة الضخ الإعلامي بأن كل الأبواب أصبحت مشرعة أمامه ولا فائدة من المقاومة والممانعة، من جهة أخرى.
إذا كانت إندونيسيا وماليزيا وباكستان لم تطبّع مع هذا العدو الشرس، وإذا كان سجلّه حافلاً بالإجرام والمجازر الدموية، ومخططاته تستهدف أمة بكاملها وتعتمد أساليب الخداع والغدر ودبّ الفرقة بين أبناء القضية الواحدة، فإن أول ما هو مطلوب من الجميع، من فلسطينيين وعرب، هو تجذير ثقافة المقاومة في المناهج المدرسية والمنتجات الفكرية والإبداعية، وإعلاء شأن الشهداء والمقاومين وأصحاب القرار المستقل والشريف حيثما كانوا، وتسمية أفراد الفريق الآخر المتخاذل بالأسماء التي يستحقونها، من دون مداهنة أو مجاملة. فالخيانة ليست وجهة نظر، والمقاومة ليست ترفاً، بل هي واجب كل إنسان مؤمن بعروبته ومستقبل أمته، وكل بحسب اختصاصه ومجاله.
الشهادة مقاومة، والامتناع عن اللعب مع لاعب صهيوني مقاومة، والكلمة مقاومة، والأحلام والفن والمسرح المقاوم مقاومة، ولنكن على يقين بأن المقاومين هم الباقون، في الدنيا لهم ذكر طيب، ولهم في الآخرة مقام مع النبيين والصديقين. والعاقبة دوماً للصادقين مع أنفسهم وقضاياهم وأمتهم، فطوبى لهم.
بثينة شعبان