ونقتطف من هذه الدراسة بهدف الإختصار مسائلة أساسية وقعت مورداً للبحث والنزاع، وهي: تحديد زمان الدفن.
حصل خلاف بين المؤرِّخين في تحديد اليوم الذي ووريت فيه أجساد شهداء الطفّ، فقد انقسموا في هذه المسألة إلى طائفتين رئيستين، ذهبت الطائفة الأولى إلى أنّ الدفن قد حصل في اليوم الحادي عشر من المحرّم، فيما ترى الطائفة الثانية أنّ الدفن قد حصل في اليوم الثالث عشر من المحرّم، فيمكن أن يقال: إنّ في المسألة قولين رئيسين:
القول الأول: دفن الشهداء تمّ في اليوم الحادي عشر من المحرّم:
يظهر هذا القول من جلّ مؤرِّخي أهل السنّة، وفي طليعتهم الطبري والمسعودي([21]) والبلاذري وابن الأثير وابن كثير. وأغلب هؤلاء تابعون للطبري الذي استقى بدوره هذا القول من أبي مخنف، فقد نقل الطبري عن أبي مخنف قوله: «... ودفن الحسينَ وأصحابَه أهلُ الغاضرية من بني أسد بعد ما قُتلوا بيوم»([22]).
قال البلاذري (ت 279هـ): «ودفن أهلُ الغاضرية ـ من بني أسد ـ جثةَ الحسين ،ودفنوا جثثَ أصحابه رحمهم الله بعد ما قُتلوا بيوم»([23]).
وقال المسعودي (ت346هـ): «ودفن أهلُ الغاضرية ـ وهم قوم من بني غاضر من بني أسد ـ الحسينَ وأصحابَه بعد قتلهم بيوم»([24]).
أما ابن الأثير(ت630 هـ ) فقد نقل قول الطبري المتقدِّم بعينه، فلا حاجة إلى إيراده ثانية([25]).
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: «وقُتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفساً، فدفنهم أهلُ الغاضرية ـ من بني أسد ـ بعد ما قُتلوا بيوم واحد»([26]).
ولم يظهر تصريح من الخوارزمي (ت 568 هـ ) بأنّ دفن الشهداء كان في اليوم الحادي عشر، بل جاءت عبارته مجملة تحتمل عدّة وجوه، قال: «وأقام عمر ابن سعد يومه ذلك إلى الغد، فجمع قتلاه فصلّى عليهم ودفنهم. وترك الحسينَ وأهل بيته وأصحابه، فلمّا ارتحلوا إلى الكوفة وتركوهم على تلك الحالة عمد أهل الغاضرية ـ من بني أسد ـ فكفّنوا أصحابَ الحسين، وصلّوا عليهم، ودفنوهم»([27]).
مؤرّخو الشيعة والدفن في اليوم الحادي عشر:
لم يصدر من مؤرِّخي الشيعة تصريح واضح بأنّ الدفن قد حصل في اليوم الحادي عشر ـ كما هو الحال عند مؤرِّخي أهل السنّة ـ بل كانت عباراتهم مجملة مبهمة، كالشيخ المفيد الذي نقلنا قوله آنفاً حين قال: «ولمّا رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولاً بالغاضرية إلى الحسين وأصحابه رحمة الله عليهم، فصلّوا عليهم ودفنوا الحسين عليه السلام حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه عليّ بن الحسين الأصغر عند رجليه...»([28])، وكذلك ذهب إلى هذا المعنى السيد ابن طاووس في اللهوف بقوله: «ولما انفصل عمر ابن سعد لعنه الله عن كربلاء، خرج قوم من بني أسد، فصلّوا على تلك الجثث الطواهر المرمَّلة بالدماء، ودفنوها على ما هي الآن عليه»([29]).
ولكن هناك من نسب إليهم القول بأنّ يوم الدفن هو الحادي عشر([30])، إلاّ أنّ هذه النسبة قابلة للنقاش؛ فإنّ كلمات القوم غير صريحة في كون يوم الدفن هو الحادي عشر من المحرّم، وإنّما نصّ هؤلاء المؤرِّخون على حصول الدفن بعد رحيل عمر بن سعد، وليس في كلامهم ما يدلّ على أنّه حصل في نفس اليوم الذي رحل فيه، فيحتمل أن يكون أنّه قد تمّ بعد رحيله مباشرةً يعني في نفس اليوم، ويحتمل أن يكون بعد رحيله بيومين.
ثمّ ستأتي الإشارة إلى اختلافهم في اليوم الذي رحل فيه عمر بن سعد، هل هو اليوم الحادي عشر أو اليوم الثاني عشر؟
وفي الواقع إنّ الإجمال في الكلام يكون جميلاً ومطلوباً في بعض المواضع، وهذا منها، فلعل الدافع الذي دفع بهؤلاء المؤرِّخين إلى هذا الإجمال هو تضارب الأقوال في هذه المسألة، فتكلّموا بالمقدار المتيقّن والجامع المشترك فيها، فإنّ الجميع متّفقون على أنّ الدفن قد حصل بعد رحيل عمر بن سعد وإن اختلفوا بعد ذلك بالمدّة التي تفصل بين الرحيل والدفن.
يضاف إلى ذلك أنّ هذه المسألة ليس بالضرورة أن يعطى رأياً قطعياً فيها؛ لكونها مسألة تاريخية بحتة ولا يترتّب عليها أثر عقائدي أو شرعي أو أخلاقي.
نعم، يظهر من ابن شهر آشوب في المناقب أنّ الدفن كان في اليوم الحادي عشر من المحرّم؛ إذ قال: «... ودفن جثثَهم بالطفّ أهلُ الغاضرية من بني أسد بعد ما قُتلوا بيوم، وكانوا يجدون لأكثرهم قبوراً ويرون طيوراً بيضاً... » ([31]).
وهذا النصّ قد اقتبسه ابن شهر آشوب ـ على ما يبدو ـ من تاريخ الطبري، ولكننا حينما نراجع تاريخ الطبري المتداول لا نجد فيه عبارة «وكانوا يجدون لأكثرهم قبوراً ويرون طيوراً بيضاً».
والظاهر أنّ النسخة التي وصلت إلى ابن شهر آشوب من تاريخ الطبري تختلف في بعض الموارد عن النسخة المتداولة؛ فإنّ لابن شهر آشوب إسناده الخاص إلى تاريخ الطبري. حيث إنّه يرويه عن القطيفي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عمرو بن محمد، بإسناده عن محمد بن جرير بن يزيد الطبري([32]).
القول الثاني: دفن الشهداء في اليوم الثالث عشر من المحرم:
وهو القول المشتهر على ألسنة المتأخرين والمعاصرين من مؤرِّخي الشيعة، يقول السيد محسن الأمين في كتابه المجالس السَّنية: «... فبقيت جثّة الحسين عليه السلام وجثث أصحابه بلا دفن ثلاثة أيام»([33]).
ويقول السيد عبد الرزاق المقرَّم: «وفي اليوم الثالث عشر من المحرَّم أقبل زين العابدين لدفن أبيه الشهيد عليه السلام؛ لأنّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله»([34]).
وفي الخصائص الحسينيّة للتستري: «... وأمّا أهل هذه النشأة، فأول من زاره بعد دفنه سيد الساجدين عليه السلام حين دفنه بعد ثلاثة أيام مع جماعة من بني أسد»([35]).
ويقول في موضع آخر من الخصائص: «ولا يبعد أن تكون زيارة يوم الثالث عشر مخصوصة أيضاً، فإنّه يوم دفنه صلوات الله تعالى عليه، وعلى الأرواح التي حلَّت بفنائه»([36]).
ويقول المظفر: «فقد شاع واشتهر على ألسنة المؤرِّخين واقتبسه منهم الشعراء أنّ الحسين عليه السلام بقي ثلاثة أيام بلا دفن» ([37]).
ويقول محمد مهدي الحائري في شجرة طوبى مخاطباً ومعاتباً أمير المؤمنين عليه السلام: «... يا أمير المؤمنين يعزّ علينا معشر المحبِّين بأن توافي سلمان من المدينة إلى المدائن، وتغسّله بيدك وتحنّطه وتكفّنه وتدفنه، ويبقى ولدك الحسين طريحاً جريحاً ملقى على الرمضاء بلا غسل ولا كفن ملقًى ثلاثاً ...»([38]).
وقال متسائلاً في موضع آخر من نفس الكتاب: «... ألم يبذل الحسين جميع ماله وعياله وأولاده في سبيل الله؟! بقيت جنازته ثلاثة أيام بلا غسل ولا كفن!»([39]).
وقال في موضع ثالث: «مات الغريب، وهو إذ ذاك سيد الخلق وأشرفهم واتقى الله، وهو أبو الأرامل واليتامى، بقي ثلاثة أيام بلا غسل ولا كفن ولا دفن»([40]).
الرأي الراجح في مسألة زمان الدفن هو اليوم الثالث عشر:
ومع أنّني بذلت مجهوداً كبيراً في تصفح مصادر واقعة الطفّ القديمة والحديثة، إلا أنّني لم أقف على المصدر التاريخي الأوّل الذي أخذ عنه هذا القول، بل إنّني أكاد أجزم بأنّه لا يوجد أحد من مؤرِّخي الشيعة القُدامى قد نصَّ على هذا القول بشكل صريح، ومع ذلك فإنّ هذا القول يمكن أن يُدعم بعدّة أمور.
شواهد ومؤيدات لحصول الدفن في اليوم الثالث عشر:
توجد عدّة شواهد ومؤيدات يمكن أن تؤلِّف بمجموعها دليلاً على أنّ اليوم الثالث عشر هو اليوم الذي دُفنت فيه أجساد الشهداء، ومن هذه الشواهد والقرائن:
أولاً: اشتهاره على ألسنة أُدباء الطفّ
إنّ دفن شهداء كربلاء بعد ثلاثة أيام من شهادتهم له حضور بارز في أدب الطفّ، وينبغي أن نتحدَّث عن ذلك ضمن النقاط التالية:
1ـ لعل أقدم مَن نَظَم هذا المعنى من أدباء الطفّ هو سيف بن عميرة النخعي الكوفي؛ وذلك في قصيدة طويلة له يرثي بها الحسين عليه السلام، يقول في أولها:
جلّ المصاب بمَن أصبنا فاعذري
يا هذه وعن الملامة فاقصري
إلى أن يقول في البيت الثالث عشر من القصيدة، والذي فيه محل الشاهد:
عارٍ بلا كفن ولا غسل سوى
مور الرياح ثلاثة لم يقبر([41])
وعميرة هذا هو أحد أدباء الطفّ في القرن الثاني الهجري كما نصّ على ذلك صاحب موسوعة أدب الطفّ([42])، وقد عدّته الموسوعات الرجالية في عداد الفقهاء والمشايخ الثقات، من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام.
ويكفي أن نذكر هنا ما قاله السيد بحر العلوم في حقّه: «سيف بن عميرة النخعي: عربي كوفي أدرك الطبقة الثالثة والرابعة، وروى عن الصادق والكاظم عليهما السلام، وهو أحد الثقات المكثرين والعلماء المصنِّفين، له كتاب، وروى عنه مشاهير الثقات، وجماهير الرواة، كإبراهيم بن هاشم، وإسماعيل بن مهران، وأيوب بن نوح، والحسن ابن محبوب، والحسن بن علي بن أبي حمزة، والحسن بن يوسف بن بقاح، وابنه الحسين بن سيف، وحماد بن عثمان، والعباس بن عامر، وعبد السلام بن سالم، وعبد الله بن جبلة، وعلي بن أسباط، وعلي بن حديد، وعلي بن الحكم، وعلي بن سيف ـ والأكثر عن أخيه عن أبيه ـ وعلي بن النعمان، وفضالة بن أيوب، ومحمد بن أبي عمير، ومحمد بن خالد الطيالسي، ومحمد بن عبد الجبار، ومحمد بن عبد الحميد، وموسى بن القاسم، ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم»([43]).
وفي ضوء التأمل فيما قيل في ترجمة هذا الرجل، يستبعد أن يتلفظ ما تلفظ به دون أن يكون له ما يستند إليه، وإذا كنا نأخذ بأقوال هذا الرجل في مجال الفقه والشريعة، فمن باب أولى أن نأخذ بأقواله في مجال التاريخ، ومن المحتمل أن يكون قد سمع هذا المعنى وتلقَّاه من الإمام الصادق أو الكاظم عليهما السلام.
ولكن ممّا ينبغي الاعتراف به، هو أنّه لا يوجد من تطرّق إلى هذا المعنى سوى سيف بن عميرة في حدود ما وصل إلينا من أدب الطفّ المنتمي للقرون الثلاثة الأولى.
ومع ذلك (فإنّ عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود)؛ فإنّ جزءاً كبيراً من تراثنا الأدبي الحسينيّ قد تعرَّض إلى الضياع والتلف، ووراء ذلك عوامل مختلفة وأسباب متنوعة لا يسعنا الوقوف عليها في هذه العجالة([44]).
2 ـ في القرن الرابع الهجري جاء هذا المعنى أيضاً على لسان الشريف الرضي، حيث جاء في قصيدته الرائية:
لله ملقى على الرمضاء به
فم الردى بين إقدام وتشميرِ
تحنو عليه الربى ظلاً وتستره
عن النواظر أذيال الأعاصيرِ
تهابه الوحش أن تدنوا لمصرعه
وقد أقام ثلاثاً غير مقبورِ([45])
والشريف الرضي صاحب هذه الأبيات: «هو السيد الأجلّ أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم عليه السلام، أخو الشريف المرتضى، أمرُه في العلم والفضل والأدب والورع وعفّة النفس وعلو الهمّة والجلالة أشهر من أن يذكر»([46]).
وللشريف الرضي كتب عديدة منها: كتاب نهج البلاغة، حقائق التأويل، تلخيص البيان من مجازات القرآن، معاني القرآن يتعذر وجود مثله، مجازات الآثار النبوية، خصائص الأئمة، ديوانه أربع مجلدات([47]).
فلم يكن الشريف الرضي مجرد شاعر أو أديب، بل هو في عداد علمائنا المتقدِّمين. ومن المستبعد أن يضمِّن شعرَه وقائع تاريخية من دون أن يكون له حجّة فيها؛ ولذا لا يمكن التقليل من أهمّية الاستشهاد بهذه الأبيات بحجّة أنّ كتب الأدب تحظى بقيمة ثانوية وهامشية فيما يخصّ الأحداث التاريخية في واقعة الطفّ. فإنّ هذا الكلام ـ على اطلاقه ـ لا يسلم من المناقشة.
4 ـ وفي كتاب كامل الزيارات ـ الذي يعود تأليفه إلى القرن الرابع الهجري ـ أورد مؤلفه المعنى المشار إليه على لسان الجنّ، حيث قال: حدَّثني حكيم بن داود ابن حكيم، عن سلمة، قال: حدَّثني أيوب بن سليمان بن أيوب الفزاري، عن علي ابن الحزور، قال: سمعت ليلى، وهي تقول: سمعت نَوح الجنّ على الحسين بن علي عليهما السلام وهي تقول:
يا عين جودي بالدموع فإنّما
يبكي الحزين بحرقة وتفجع
يا عين ألهاك الرقاب بطيبة
من ذكر آل محمد وتوجع
باتت ثلاثاً بالصعيد جسومهم
بين الوحوش وكلهم في مصرع([48])
وسواء كنت ـ أيها القارئ الكريم ـ تعتقد بصحّة نسبة هذه الأبيات إلى الجنّ أوكنت تعتقد بلزوم تأويلها، كما ذهب إلى ذلك الشهيد مرتضى مطهري في الملحمة الحسينيّة([49])، ففي كلا الحالين تبقى هذه الأبيات نصاً تاريخياً يدلّ على وجود من يتبنّى الرأي المشار إليه قبل القرن الرابع الهجري.
5 ـ حسب تتبعنا لموسوعات أدب الطفّ لا يوجد من أشار إلى هذا المعنى في القرون (الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع)، أو على الأقل أنّه لم يصل إلينا؛ لأنّ (عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود)، كما ألمحنا سابقاً.
وقد بدأ هذا المعنى بالذيوع في أدب الطفّ وبنحو تدريجي مع بدايات القرن العاشر، بحيث إنّنا كلّما تقدَّمنا في القرون الأخيرة، ازداد هذا المعنى حضوراً على ألسن الأدباء.
والملاحظ أنّ شيوع هذا المعنى في أدب الطفّ في القرون الأخيرة، جاء متزامناً مع التزامه كرأي من قبل المتأخرِّين من مؤرِّخي الشيعة.
وعلى أية حال، فإنّ ما نُظم في هذا المعنى خلال هذه الفترة أكثر من أن نُمثِّل له أو نستشهد له بنماذج على أنّ هذه الشواهد والنماذج مع كثرتها لا تنفعنا في المقام؛ لأنّ قائليها قد يكونون قد تأثّروا بشيوع هذا الرأي على ألسنة مؤرِّخي الشيعة المتأخرين.
ثانياً: الخلل في دلالة وصحّة قولهم إنّ الدفن كان في اليوم الحادي عشر
إنّ التحليل الدقيق لما قاله أصحاب القول الأوّل يُظهر لك فسادَ هذا القول وبُعده عن الصواب؛ فإنّ المؤرِّخين قد أجمعوا ـ بما فيهم أصحاب هذا القول ـ على أنّ الدفن قد حصل بعد رحيل عمر بن سعد، وقد اتّفق المؤرِّخون على أنّ رحيله قد تمّ بعد اليوم العاشر، حيث ذهبت أكثر المصادر إلى القول بحصول الرحيل في اليوم الحادي عشر([50]). وذهبت مصادر أخرى إلى القول بحصوله في اليوم الثاني عشر([51]). وبالجملة يمكن القول: إنّ هناك اتّفاقاً بين المؤرِّخين على عدم حصول الرحيل قبل اليوم الحادي عشر؛ فليس من المعقول أنّ بني أسد قد قاموا بعملية الدفن في نفس اليوم الذي تمّ فيه الرحيل، خصوصاً إذا التفتنا إلى بعض النقول التي تقول إنّهم لم يكونوا في قريتهم آنذاك. إلاّ أنّه يجوز على أساس هذا التحليل أن يكون الدفن قد حصل في اليوم الثاني عشر، وهذا ما احتمله بعض الباحثين، كالمظفر في كتابه بطل العلقمي، وهو الظاهر من كلام هبة الدين الشهرستاني في كتابه نهضة الحسين عليه السلام، وصالح الشهرستاني في تاريخ النياحة.
قال المظفر: «وهنا نفهم أن لا يتمّ لهم رحيل إلا ليلة الثاني عشر ولا تبلغ الأخبار برحيلهم إلى بني أسد إلاّ يوم الثاني عشر، لانقطاع المارّة هيبة ورهبة للجيش، فإن كانوا في حيهم نزولاً، فقد يجوز أنّهم دفنوهم في اليوم الثاني عشر، وهو ثالث يوم قتلهم؛ فيكون بقاؤهم بلا دفن يومان ونصف»([52]).
وقال هبة الدين الشهرستاني: «هذا وما عتمت عشية الثاني عشر من محرَّم، إلاّ وعادت إلى أرياف كربلاء عشائرها الظاعنة عنها بمناسبة القتال، وقطّان نينوى والغاضريات من بني أسد ـ وفيهم كثير من أولياء الحسين عليه السلام، وقليل ممّن اختلطوا برجالة جيش الكوفة ـ فتأملوا في أجساد زكية تركها ابن سعد في السفوح وعلى البطح تسفي عليها الرياح، وتساءلوا عن أخبارها العرفاء، فما مرّت الأيام والأعوام إلاّ والمزارات قائمة، وعليها الخيرات جارية، والمدائح تُتلى، والحفلات تتوالى، ووجوه العظماء على أبوابها، وتيجان الملوك على أعتابها...»([53]).
وجاء في تاريخ النياحة لصالح الشهرستاني: «ما عتمت عشية اليوم الثاني عشر من المحرّم سنة61 هـ ـ أي اليوم الثالث على استشهاد الإمام وصحبه وآله ـ إلاّ وكانت قد عادت العشائر التي كانت تحيط بمنطقة القتال في كربلاء، والتي كانت قد ظعنت مؤقتاً عنها بمناسبة القتال، وهي عشائر بني عامر من قبائل بني أسد من سكّان قريتي الغاضرية ونينوى، وكانت أكثريّتها تُشايع آل بيت النبوة صلى الله عليه وآله وتوالي الحركة الحسينيّة، فبادرت هذه العشائر فور عودتها إلى التعرُّف على أجساد المستشهدين الزكية، التي تركها ابن سعد في العراء تسفي عليها الرياح، ثمّ أخذ أفراد هذه العشائر يحفرون للأجساد الحُفَر اللازمة، وقد دَفنوا فيها أشلاءها الممزقة» ([54]).
ثالثاً: حضور الإمام زين العابدين عليه السلام عمليةَ الدفن
ومن القرائن الأُخرى ـ التي ذكرها بعض الباحثين ـ المرجِّحة لحصول الدفن في اليوم الثالث عشر هي حضور الإمام زين العابدين عليه السلام مع الأسديين لمواراة الأجساد؛ حيث تذكر روايةُ مناظرة الإمام الرضا عليه السلام مع الواقفة: أنّه عليه السلام قد حضر إلى الطفّ بأسلوب إعجازي، فخرج من سجن ابن زياد وهم لا يعلمون.
والمظنون أنّ زين العابدين عليه السلام قد دخل إلى السجن في اليوم الثالث عشر([55]).
وهذا الظنّ بحضور الإمام زين العابدين عليه السلام في الثالث عشر من المحرّم مستنتَج من عدّة شواهد وقرائن تاريخيّة:
القرينة الأُولى: نصّت أكثر المصادر على حصول الرحيل في اليوم الحادي عشر ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ وقد نصّ بعضهم على حصوله بعد الزوال([56]).
القرينة الثانية: هناك بعض الشواهد والقرائن تكشف عن وصول الجيش والعائلة إلى الكوفة في النهار؛ فيكونون قد باتوا ليلة الثاني عشر في منزل قريب من الكوفة، ودخلوا الكوفة في اليوم الثاني عشر.
وقد اعتبر صاحب الركب الحسيني أنّ أهمّ تلك الشواهد والقرائن هي:
1ـ حساب المسافة وسرعة الدواب في ذلك العصر، فإنّ الأرجح أنّ عمر ابن سعد ومن معه يمسون عند مشارف الكوفة أول الليل ـ أي ليلة الثاني عشر ـ هذا إذا كانوا قد جدّوا السير إلى الكوفة.
2ـ إنّ دخوله الكوفة نهاراً لا ليلاً أمر يقتضيه العامل الإعلامي، وزهو الانتصار، والمباهاة بالظفر في صدر كلّ من ابن زياد وابن سعد وأعوانهما.
3ـ وجود بعض الإشارات التاريخيّة، التي تفيد أنّ دخولهم الكوفةَ كان نهاراً لا ليلاً([57]).
القرينة الثالثة: انشغال الإمام زين العابدين عليه السلام والعائلة في اليوم الذي دخلوا فيه الكوفة بعدّة أشياء، كعرضهم على ابن زياد لعنه الله، وإلقائهم للخطب وما إلى ذلك.
فمن مجموع هذه الشواهد والقرائن يمكن أن نستنتج أنّ أول أيام سجن الإمام زين العابدين عليه السلام والعائلة في الكوفة هو اليوم الثالث عشر من المحرّم.
وبما أنّ الإمام الرضا عليه السلام قد أشار في مناظرته مع الواقفة أنّ حضوره إلى الطفّ كان إعجازياً؛ فخرج من سجن ابن زياد وهم لا يعلمون، فيستنتج من كلّ ذلك أنّ حضوره إلى الطفّ كان في اليوم الثالث عشر.
رابعاً: عمل الطائفة على أنّ الدفن في اليوم الثالث عشر
إنّ عمل الطائفة الإمامية إلى اليوم مبني على أنّ يوم الدفن هو الثالث عشر من المحرّم «ففي كلّ عام من أعوام الشيعة الثالث عشر من المحرّم تشاهد موكب التمثيل الفخم يضم ألوف الممثِّلينَ من الرجال والنساء يحملون القرب والمساحي والمعاول يهرعون إسراعاً بالعويل والصراخ إلى الحائر الحسيني، فترى نفسك والحال هذه كأنّك بين الأسديين القدامى، الذين أنهضتهم الحفاظ وقادهم الحماس الديني لمواراة آل الرسول صلى الله عليه وآله»([58]).
وهذه السيرة العمليّة الممتدّة في عمق التاريخ لا يمكن أن تكون بلا أصل معوَّل عليه، لاسيما إذا التفتنا إلى أنّها كانت ولا تزال تجري في المدن المقدَّسة، وتحت أنظار فقهاء الطائفة وأساطين المذهب، مع أنّ أياً منهم لم يعترض عليها ولم ينهَ عنها.
مما سبق نستطيع الجزم بأن يوم دفن شهداء واقعة الطف تم في 13 من محرم الحرام سنة 61للهجرة النبوية بمشاركة عشيرة بني أسد وحضور الإمام علي بن الحسين عليه السلام.
الدراسة الأصلية للشيخ عامر الجابري
المصادر:
([21]) اُختلف في معتقد المسعودي وميوله المذهبية، فقد ذكره علماء الشيعة في كتبهم الرجالية، ومنهم النجاشي، الذي أفاد بأنّ له كتباً في الإمامة. رجال النجاشي: ص254. بل هناك من علماء الشيعة مَن صرّح بأنّ المسعودي شيعي، كابن إدريس الحلي في السرائر: ج1، ص651، والسيد علي بن طاووس في فرَج المهموم: ص126، ومهدي بحر العلوم في الفوائد الرجالية: ج4، ص150، والمازندراني في منتهى المقال: ج4، ص391، وغيرهم.
بينما جعله الذهبي معتزلياً، في سير أعلام النبلاء: ج15، ص596، وأورده السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: ج3، ص456. ويظهر من كتابه مروج الذهب وكتابه التنبيه والإشراف، أنّ الرجل من أهل السنّة، نعم كتاب إثبات الوصيّة يثبت خلاف ذلك، وهناك من يشكك في نسبة الكتاب إليه.
([22]) الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك: ج3، ص335.
(([23] البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج3، ص205. (دار الفكر، بيروت، ط1، 1996م).
([24]) المسعودي، علي بن الحسين بن علي، مروج الذهب: ج3، ص63.
(([25] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج2، ص178. (دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415 هـ.).
([26]) ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج8، ص205.
([27]) الخوارزمي، أبو المؤيد الموفق بن أحمد، مقتل الحسين: ج2، ص44. (انتشارات أنوار الهدى. قم المقدّسة، ط5، 1431هـ).
([28]) المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص114.
([29]) ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفّوف: ص85.
([30]) ممَّن نسب هذا القول إلى هؤلاء المؤرِّخين محمد جعفر الطبسي في كتابه مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، حيث قال ـ بعد أن ذكر مؤرِّخي السنّة القائلين بأنّ الدفن قد حصل في اليوم الحادي عشرـ: «ويوافقهم في هذا الرأي أبرز مؤرّخي الشيعة، كالمسعودي أيضا،ً حيث يقول: ودفن أهلُ الغاضريّة ـ وهم قوم من بني غاضر من بني أسد ـ الحسينَ وأصحابه بعد قتلهم بيوم. والشيخ المفيد (ره) حيث يقول: ولمّا رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد، كانوا نزولاً بالغاضرية إلى الحسين وأصحابه رحمة اللّه عليهم، فصلّوا عليهم، ودفنوا الحسين عليه السلام حيث قبره الآن، ودفنوا ابنه عليَّ بن الحسين الأصغر عند رجليه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صُرعوا حوله ممّا يلي رجلي الحسين عليه السلام وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العبّاس بن عليّ عليهما السلام في موضعه الذي قُتل فيه على طريق الغاضريّة حيث قبره الآن. وذهب إلى ذلك السيد ابن طاووس (ره) أيضاً، حيث يقول: ولمّا انفصل عمر بن سعد لعنه اللّه عن كربلاء خرج قوم من بني أسد، فصلّوا على تلك الجثث الطواهر المرملة بالدماء، ودفنوها على ماهي الآن عليه». الطبسي، محمد جعفر، مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة: ج5، ص291. (قم المقدسة، 1323هـ.).
(([31] ابن شهر آشوب، مشير الدين أبو عبد الله محمد بن علي، مناقب آل أبي طالب: ج3، ص305.
([32]) اُنظر: المصدر السابق: ج1، ص7.
(([33] الأمين، محسن، المجالس السنية: ج1، ص128.
(([34] المقرَّم، عبد الرزاق، زين العابدين عليه السلام: ص402.
([35]) التستري، جعفر، الخصائص الحسينية: ص344. (دار الحوراء، بيروت).
(([36] المصدر نفسه: ص 308.
([37]) المظفر، عبد الواحد، بطل العلقمي: ج 3، ص 259. (دار الحوراء، بيروت، ط1، 2009م).
([38]) الحائري، محمد مهدي، شجرة طوبى: ج1، ص75. (منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها في النجف الأشرف، ط5، 1385 هـ).
(([39] المصدر السابق: ج2، ص 235.
([40]) المصدر نفسه: ج2، ص 448.
([41]) الطريحي، فخر الدين، المنتخب في جمع المراثي والخطب: ج2، ص214.
[42])) اُنظر: شبر، جواد، أدب الطفّ: ج1، ص196. (مؤسسة التاريخ، بيروت، ط1، 1422هـ).
[43])) بحر العلوم، مهدي، الفوائد الرجالية: ج3، ص36 ـ 37. (مكتبة الصادق، طهران، ط1).
([44]) يقول السيد جواد شبر: «ولا أبالغ إذا قلت: إنّي نخلت أكثر من خمسين ديواناً من دواوين الشعراء في القرون المتقدمة، وقرأت كلّ بيت من أبياتها عسى أن يكون هناك بيت يخصّ الموضوع، وسبرت كثيراً من الدواوين، وتركتها والنفس غير طيبة بقرأتها، تركتها والأمل لم يزل متّصل بها والحسرة تتبعها؛ ذلك أنّي لا أؤمن أنّ أمثال أولئك الشعراء الفطاحل لم ينظموا في يوم الحسين مع ما عُرفوا به من الموالاة والمفاداة لأهل البيت صلوات الله عليهم، فهل تعتقد أنّ أمثال أبي تمام والفرزدق وابن الرومي والبحتري والحسين الطغرائي وصفي الدين الحلي والمتنبي وأضرابهم لم يقولوا في الحسين، ولم يذكروا يومه ويتأثروا بموقفه البطولي، مع أنّ يوم الحسين هزّ العالم هزّاً عنيفاً لا زال صداه يملأ الآفاق.
إن الكثير من تراثنا الأدبي ضاع وأهمل وغطّت عليه يد العصبية في الأعصر الأموية وتوابعها في عصور الجهل والعقلية المتحجرة». شبر، السيد جواد، أدب الطفّ: ج3، ص5.
([45]) ابن شهر آشوب، مشير الدين أبو عبد الله محمد بن علي: ج3, ص259.
([46]) القمّي، عباس، الكنى والألقاب: ج2، ص272.
(([47] انظر: الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، أمل الآمل: ج2، ص261ـ 262. (مطبعة الآداب، النجف الأشرف).
[48])) ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص94. (دار المرتضى، بيروت، ط1، 2008م).
([49]) اُنظر: مطهري، مرتضى، الملحمة الحسينيّة: ج3، ص382. (الزهيري للطباعة والنشر، ط1، 2009).
([50]) وفي طليعة القائلين بذلك: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخ الأمم والملوك: ج3، ص336، وأحمد بن يحيى بن جابر بن داوود البلاذري في أنساب الأشراف: ج3، ص 206.
([51]) وفي مقدِّمة القائلين بذلك: أبو حنيفة أحمد بن داوود الدينوري في الأخبار الطوال: ص259. وقد تابعه على ذلك عدد من المؤرِّخين، منهم: أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد ابن محمد بن عبد الكريم الشيباني، المشهور بـ( ابن الأثير ) في الكامل في التاريخ: ج3، ص185.
([52]) المظفر، عبد الواحد، بطل العلقمي: ج3، ص260.
([53]) الشهرستاني، هبة الدين، نهضة الحسين: ص178.
(([54] الشهرستاني، صالح، تاريخ النياحة: ج1، ص63. (مؤسسة انصاريان، قم المقدسة، ط2، 2005م).
([55]) قد يقال: إنّه ينبغي أن يساق حضور الإمام زين العابدين عليه السلام كدليل مستقلّ، لا قرينة مرجِّحة، خصوصاً أنّنا سنعقد له مبحثاً مستقلاً ونحاول فيه إثباته.
والجواب: إنّ هناك فرقاً بين نفس حضور الإمام زين العابدين عليه السلام وبين حضوره مقيداً بكونه في اليوم الثالث عشر، فالذي سنعقد له مبحثاً مستقلاً هو نفس الحضور مجرّداً عن تقييده بزمان محدّد، والذي سقناه كقرينة ـ هنا ـ هو حضوره مقيداً بكونه في اليوم الثالث عشر، ولا ملازمة بين الأمرين، فقد يثبت المؤرِّخ نفس الحضور، وفي ذات الوقت ينفي كونه في اليوم الثالث عشر، وإذا كان نفس الحضور يستند إلى بعض النصوص التاريخية ـ كما سنرى ـ فإنّ كون الحضور في اليوم الثالث عشر هو مجرّد استنتاج من بعض القرائن والشواهد، ولا يستند إلى نصّ تاريخي صريح.
([56]) اُنظر: الطبرسي، الفضل بن الحسن، إعلام الورى بأعلام الهدى: ج1، ص470. (مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث(.
([57]) اُنظر: الطبسي، محمد جعفر، مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة: ج5، ص2.
([58]) المظفر، عبد الواحد، بطل العلقمي: ج3، ص269.