كما أن كل واقعة تاريخية تأخذ مكانتها من خلال عناصر يدخل فيها المكان والزمان وسائر المعادلات الاجتماعية والنفسية والثقافية والسياسية والاقتصادية.
ومن هنا سجل التاريخ تلك الأحداث، وأصبحت مناسبات تستذكر البشرية فيها مقاطع مؤثرة في مسيرة الحياة الإنسانية في هذا العالم.
وعندما نصل إلى واقعة كربلاء في يوم عاشوراء من سنة ٦١ هجرية نجد أن هناك خصوصية امتازت بها عن غيرها من الحوادث والوقائع التاريخية وهي استمرارية التأثير والتفاعل، بل كانت نقطة البداية لمرحلة جديدة من مراحل تطبيق الرسالة الإلهية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله.
لذلك كان هناك موقفين حادين منها، الأول يعتبرها إمتداد طبيعي لمسيرة الدعوة الإسلامية التي بدأت ببعثة النبي محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله - وإنها تمثل صرحا أساسيا للرسالة المحمدية الأصيلة، ولم تكن مجرد حادث عابر في التاريخ الإنساني نمر عليه مرور الكرام، بل يحتاج منا إلى وقفة تأمل ودراسة لجميع عناصر هذه الواقعة.
فالعنصر البشري فيها يمثل النخبة التي قادها ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وآله - وإبن بنته وخامس أهل الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، الذي قال فيه جده المصطفى - صلى الله عليه وآله - كما رواه محدثوا أهل السنة في صحاحهم والتي منها البخاري وابن ماجه، والتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله : "حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْناً، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الْأَسْبَاطِ".
هذا ولو درسنا سيرة كل فرد ممن رافق الحسين عليه السلام وشارك معه في هذه الثورة سواء قبل يوم عاشوراء أو فيه او بعده لتجدهم يمثلون قمما من الكمال الإنساني التي ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير.
كما أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام تبنت مبدأ الإصلاح في الأمة الإسلامية التي قام الطغاة من آل أمية وأعوانهم بتحريف مبادئ الرسالة وتغيير مسارها عن النهج الصحيح.
كذلك المقطع الزمني الذي حصلت فيه الثورة له بالغ الأهمية، حيث جاءت الثورة في زمن وصل الفساد العقائدي والسياسي والإقتصادي إلى أسوء حالة، الأمر الذي كان يستوجب من المعصوم عليه السلام القيام بواجبه، في وضع حد لهذا الإنحراف وإعادة الأمة إلى جادة الصواب من خلال تنبيهها حيث كانت تغط في سباة عميق وغفلة رهيبة.
هذه العناصر وغيرها جعلت من ثورة الأمام الحسين عليه السلام كما يعبر عنها المفكر الإسلامي المرحوم الشيخ محمد مهدي الآصفي بأنها تمثل "خلاصة تاريخ البشرية".
وبالمناسبة لا بد من التنويه إلى أن ثورة الإمام الحسين - عليه السلام - لا يمكن إختصارها في يوم عاشوراء فقط، صحيح ان عاشوراء يمثل نقطة الإرتكاز أو المقطع الزمني والمكاني الأهم في الواقعة الأليمة، التي سفك فيها دم سبط الرسول مع خيرة أهل بيته وأصحابه في مشهد مأساوي لم ولن يشهد له التاريخ مثيلا.
بعبارة أخرى أن واقعة يوم عاشوراء هي مركز الثقل في ثورة الإمام الحسين عليه السلام، إلا أن الثورة غير منفصلة عن الرسالة المحمدية من اليوم الأول للبعثة النبوية الشريفة وتبقى ممتدة حتى ظهور الإمام المنتظر الحجة بن الحسن عجل الله فرجه الشريف.
ومن هنا جاء الموقف الآخر من ثورة الأمام الحسين عليه السلام المتمثل بموقف أعداء الإسلام المحمدي الأصيل والذين جردو سيوفهم وأقلامهم لمحاربة هذه الثورة وقائدها.
فكان أحد أساليبهم في محاربة النهضة الحسينية هو محاولتهم إبراز يوم عاشوراء - لأنه مركز ثقل الثورة الحسينية - إبرازه بوجه آخر غير الذي هو عليه، كما في أكثر البلاد الإسلامية خاصة الموالية لأهل البيت - عليهم السلام - من كونه يوم حزن وعزاء ومصيبة.
ومن بين تلك السهام التي وجهوها صوب ثورة الإمام الحسين عليه السلام هي وضع الأحاديث في فضل صوم يوم عاشوراء ومنها على سبيل المثال:
قال ابن الجوزي : تمذهب قوم من الجهال بمذهب أهل السنة فقصدوا غيظ الرافضة فوضعوا أحاديث فى فضل عاشوراء.
وايضا قال ابن الجوزي : ... فمن الاحاديث التى وضعوا : ... عن الاعرج ، عن ابى هريرة قال : قال رسول الله ان الله عزَّ وجلَّ افترض على بنى اسرائيل صوم يوم في السنة يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم فصوموه ووسعوا على أهليكم ،.... حتى قال: وأول يوم خلق الله من الدنيا يوم عاشوراء...
والتحريف واضح في هذه الروايات وهناك الكثير من الأكاذيب الموضوعة حول صوم يوم عاشوراء ومعانيها الحقيقة واضحة جدا.
لقد أصبح عاشوراء وصمة عار على جبين كل "أموي الفكر والتوجه" على مر العصور وبكل المقاييس القديمة والحديثة التي تتعلق بحقوق الإنسان على جميع المستويات، لهذا كانت تلك المحاولات البائسة وما زالت لحرف الأنظار عن مأساوية عاشوراء، وحقيقتها من خلال تحويل هذه المناسبة إلى مناسبة فرح وسرور.
من هنا كان لأئمة أهل البيت عليهم السلام موقفا هاما من صوم يوم عاشوراء، ولم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذه المؤامرة بل قاموا بإحيائهم يوم عاشوراء كيوم حزن ومصيبة وعزاء وبينوا للناس ما أصاب سبط رسول الله - صلى الله عليه وآله - والبيت النبوي والعلوي والأمة الإسلامية من الخسارة والظلم.
رَوى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، قَالَ حَدَّثَنِي نَجَبَةُ بْنُ الْحَارِثِ الْعَطَّارُ، قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ - عليه السلام - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟
فَقَالَ : "صَوْمٌ مَتْرُوكٌ بِنُزُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْمَتْرُوكُ بِدْعَةٌ".
قَالَ نَجَبَةُ : فَسَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ - عليه السلام - مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ - عليه السلام - عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَنِي بِمِثْلِ جَوَابِ أَبِيهِ. ثُمَّ قَالَ : "أَمَا إِنَّهُ صَوْمُ يَوْمٍ مَا نَزَلَ بِهِ كِتَابٌ وَلَا جَرَتْ بِهِ سُنَّةٌ إِلَّا سُنَّةُ آلِ زِيَادٍ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا".
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عِيسَى أَخُوهُ، قَالَ سَأَلْتُ الرِّضَا - عليه السلام - عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَمَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ؟
فَقَالَ : "عَنْ صَوْمِ ابْنِ مَرْجَانَةَ تَسْأَلُنِي؟! ذَلِكَ يَوْمٌ صَامَهُ الْأَدْعِيَاءُ مِنْ آلِ زِيَادٍ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ - عليه السلام - وَهُوَ يَوْمٌ يَتَشَأَّمُ بِهِ آلُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله - وَ يَتَشَأَّمُ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَالْيَوْمُ الَّذِي يَتَشَأَّمُ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ لَا يُصَامُ وَلَا يُتَبَرَّكُ بِهِ.
وهناك الكثير من هذه الروايات حول كراهية صوم يوم عاشوراء وردت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
ونستطيع أن نستخلص مما سبق أن هناك أغراض سياسية حاولت طمس حقيقة ثورة الإمام الحسين عليه السلام من خلال ضرب مركز ثقل هذه الثورة، إلا أن كل تلك المساعي ذهبت ادراج الرياح لشيء واحد، وهو أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام ونهضته موصولة بالحي الذي لا يموت فإكتسبت إستمراريتها وديمومتها منه سبحانه وتعالى.
واليوم وأمام أنظار الجميع بدأ العالم يفهم ثورة الحسين عليه السلام ونهضته المباركة لتأخذ موقعها المناسب وتسجل أثرها الفاعل في حياة الأمم والشعوب.
قال تعالى : "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" سورة التوبة آية 32
بقلم / جابر كرعاوي