أي: لمنتظره، فنظرته- هنا- بمعنى انتظرته.
وأول مَن قاله قراد بن أجدَع.
وذلك أنَّ النعمان بن المنذر خرج يتصيد على فرسه اليحموم، فأجراه على أثر عَيرٍ فذهبت به في الأرض ولم يقدر عليه، وانفرد عن أصحابه، وأخذته السماء فطلب ملجأً يلجأ اليه، فدُفع الى بناء، فإذا فيه رجلٌ مِن طيء يقال له: حنظلة ومعه امرأة له، فقال لهما: هل مِن مأوى؟
فقال حنظلة: نعم.
فخرج إليه فأنزله.
ولم يكن للطائي غير شاة وهو لا يعرف النعمان، فقال لامرأته: أرى رجلاً ذا هيئة.
وما أخلقه أنْ يكون شريفاً خطيرا! فما الحيلة؟
قالت: عندي طحين كنت ادَّخرته. فاذبح الشاة لِأتَّخذ مِن الطحين مَلَّة.
فأخرجت المرأة الدقيق، فخبزت منه مَلةً.
وقام الطائي الى شاته، فاحتلبها، ثُمَّ ذبحها، فاتَّخذ مِن لحمها مَرقةً مَضيرة، وأطعمه مِن لحمها، وسقاه مِن لبنها.
واحتالَ له شراباً فسقاه، وجعل يحدثه بقية ليلته.
فلمّا أصبح النعمان لبس ثيابه وركب فرسه، ثُمّ قال للرجل: يا أخا طبِّيء اطلُب ثَوابك.
أنا الملك النعمان.
قال الطائي: أفعل إنْ شاء الله.
ثُمّ لحق الخيل، فمضى نحو الحيرة.
ومكث الطائي بعد ذلك زماناً، حتى أصابته نكبةٌ وجَهدٌ، وساءت حاله، فقالت له امرأته: لو أتيتَ الملك لَأحسنَ إليك.
فأقبل حتى انتهى إلى الحيرة، فوافق يوم بؤس النعمان، فإذا هو واقف في خيله في السلام، فلمّا نظر إليه النعمان عرفه، وساءه مكانه.
فوقف الطائي بين يديه، فقال له النعمان: أنت الطائي المنزول به؟
قال: نعم.
قال: أفلا جئت في غير هذا اليوم؟
قال: أبيتُ اللعن! وما كان علمي بهذا اليوم؟
قال: واللهِ لو سنح لي في هذا اليوم قابوس ابني لم أجد بُدّاً مِن قتله.
فاطلب حاجتك مِن الدنيا، واسأل ما بدأ لك، فإنَّك مقتول.
قال: أبيتُ اللعن، وما أصنع بالدنيا بعد نفسي؟
قال النعمان: إنه لا سبيل إليها.
قال: فإن كان لابُدَّ، فأجِّلني حتى ألِمَّ بأهلي، فأوصي إاليهم، وأهيِّيء حالهم، ثُمّ أنصرف إليك.
قال: فأقم لي كفيلاً بموافاتك.
فالتفت الطائي الى شريك بن عمرو بن قيس من بني شيبان، وكان يُكنى أبا الحَوفزان وكان صاحب الرِّدافة، وهي الاسم من أرداف الملوك في الجاهلية، وتعني أنْ يجلس الملك ويجلس الرّدف عن يمينه، فإذا شرب الملك شرب الرِّدف قبل الناس.
واذا غزا الملك قعد الرِّدف في موضعه، وكان خليفته على الناس حتى ينصرف. واذا عادت كتيبة الملك أخذ الرِّدف المرباع.
وكانت الرِّدافة في الجاهلية لبني يربوع، لأنَّه لم يكن في العرب أحد أكثر إغارة على ملوك الحيرة منهم، فصالحوهم على أنْ جعلوا لهم الرِّدافة ويكفوا عن أهل العراق الغارة.
فقال الطائي لشريك وهو بجنب النعمان:
يا شريكاً يا ابنَ عمرو
هل من الموت محالَه
يا أخا كُلِّ مُضافٍ
يا أخا من لا أخا لَه
يا أخا النعمان فُكَّ الـ
يوم ضيفاً قد أتى لَه
طالما عالج كَرْبَ الـ
موتِ لا يَنْعَمُ با لَه
فأبى شريكٌ أنْ يتكفل به، فوثب إليه رجل مِن كلب يقال له قراد بن أجدع، فقال للنعمان: أبيتَ اللعن! هو عَلَيَّ.
قال النعمان: أفَعلْتَ؟
قال: نعم.
فضمنه إيّاه.
ثُمَّ أمر للطائي بخمسِ مئة ناقة.
فمضى الطائي الى أهله، وجعل الأجل حولاً مِن يومه ذلك الى مثله مِن قابل.
فلمّا حال عليه الحول، وبقي من الأجل يوم قال النعمان لقراد: ما أراك إلّا هالكاً غداً.
فقال قراد:
فإن يَكُ صَدرُ هذا الموتِ ولّى
فإنَّ غداً لِناظرِه قريبُ
فلمّا أصبح النعمان ركب في خيله ورَجلِه متسلحاً كما كان يفعل، حتى أتى الغَرِيِّين، فوقف بينهما، وأخرج معه قراداً، وأمر بقتله، فقال له وزراؤه: ليس لك أنْ تقتله حتى يستوفي يومه.
فتركه.
وكان النعمان يشتهي أنْ يقتل قراداً، ليفلت الطائي مِن القتل.
فلمّا كادت الشمس تَجِبُ وقراد قائم مُجرَّد في إزارٍ على النِّطع والسيّاف إلى جنبه أقبلت امرأته وهي تقول:
أيا عَينُ بكيِّ لي قُراد بن أجدَعا
رهيناً لِقَتلٍ لارهيناً مُوَدَّعا
أتَتْهُ المَنايا بَغْتةً دون قَومهِ
فأمسى أسيراً حاضرَ البيتِ أضرَعا
فبيناهم كذلك إذ رفع لهم شخصٌ مِن بعيد، وقد أمر النعمان بقتل قُراد، فقيل له: ليس لك أنْ تقتله حتى يأتيك الشخص، فتعلم مَنْ هو.
فكَفَّ حتى انتهى إليهم الرجل، فإذا هو الطائي.
فلمّا نظر إليه النعمان شَقَّ عليه مجيئة، فقال له: ما حملك على الرجوع بعد افلاتك مِن القتل؟
قال: الوفاء.
قال: وما دعاك الى الوفاء؟
قال: دِيني.
قال: النصرانية.
قال النعمان: فاعرفها علَيَّ.
فعرضها عليه، فتنصر النعمان وأهل الحيرة أجمعون.
وكان قبل ذلك على دين العرب.
فترك القتل منذ ذلك اليوم، وأبطل تلك السُّنة، وأمر بهدم الغَريِّين، وعفا عن قراد والطائي، وقال: والله ما أدري أيهما أوفى وأكرم.
أهذا الذي نجا مِن القتل فعاد, أم هذا الذي ضَمِنه؟
واللهِ لا أكونَ ألأمَ الثلاثة.
فأنشد الطائي يقول:
ما كنتُ أُخلِفُ ظنَّه بعد الذي
أسدى إليَّ مِنَ الفَعالِ الخالي
ولقد دَعَتْني للخلافِ ضلالتي
فأبيتُ غيرَ تَمجُّدي وفعالي
إنِّي امرؤٌ مِنِّي الوفاءُ سَجِيّةٌ
وجَزاءُ كُلِّ مكارم بذّالِ
وقال أيضاً يمدح قُراداً:
ألا إنّما يسمو الى المجد العُلا
مخاريقُ أمثالُ القُراد بنِ أجدَعا
فإنَّهم أمثالُ القُراد وأهلِهِ
فإنَّهم الأخيار مِنْ رهْطِ تُبَّعا
شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم