التاريخ: مساء 27 آبان 1365 هـ.ش / 15 ربيع الأول 1407 هـ.ق
المكان: طهران ، جماران
الموضوع: وصية أخلاقية ـ عرفانية، وأهمية الصلاة في الارتقاء الروحي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله...
وصية من والد كهل قضى عمراً بالبطالة والجهالة، ويسير الآن نحو الدار الأبدية وهو خالي الوفاض من الحسنات وذو صحيفة أعمال مليئة بالسيئات، لكنّ قلبه مفعم بالأمل بمغفرة الله والرجاء بعفوه، الى ولد يرفل بعز الشباب ويعاني الأمرين من حوادث الدهر، وهو حرّ في اختيار الصراط الالهي المستقيم ـ هداه الله إليه بفضله اللامتناهي ـ أو الطريق المنحرف، حفظه الله وأقاله من العثرات برحمته الواسعة.
ولدي العزيز: الرسالة التي أهديكها عبارة عن نبدة من صلاة العارفين ونزر من السلوك المعنوي للسالكين، برغم أنّ يراعاً كيراعي يعجز عن بيان هذه الرحلة. وأقر أنّ ماكتبته لايتخطى الألفاظ والعبارات، وأنا بنفسي لم أحصل على نزر يسير من ذلك.
إبنى البار: ما جاء في هذا المعراج هو الغاية القصوى لآمال العارفين حيث نقف عاجزين إزاء ذلك، لكن لا يجب القنوط من الرعاية الالهية فإنّه جل وعلا مغيث الضعفاء ومعين الفقراء.
فلذة كبدي: يقع الكلام في السفر من الخلق الى الحق، ومن الكثرة الى الوحدة، ومن عالم الطبيعة الى ما فوق الجبروت، الى حد الفناء المطلق الحاصل في السجدة الأولى، والفناء بعد اليقظة الحاصل في السجدة الثانية. وهذا تمام قوس الوجود من الله والى الله. وفي هذه الحالة لا ساجد ولا مسجود له ولاعابد ولا معبود: « هوَ الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ »([1]).
ولدي: أول ما أوصيك به عدم إنكار مقامات العارفين، فإنّ هذا أسلوب الجاهلين؛ واجتناب معاشرة منكري مقامات الأولياء، فإنّ هؤلاء قطاع طريق الحق.
عزيزى: دع الكبر والخيلاء فإنّه إرث الشيطان، حيث أبى الخضوع لوليه وصفيه بأمره تعالى تكبراً وغروراً. واعلم أنّ جميع ابتلاءات بني آدم تنبع من هناك، وتلك هي أصول الفتنة؛ ويحتمل أن تكون الآية الشريفة: « وقاتلوهُم حتّى لا تكونَ فتنةً ويكونَ الدينُ للهِ » ([2]) في بعض مراحلها إشارة للجهاد الأكبر ومحاربة جذور الفتنة المتمثلة بالشيطان وجنوده، حيث تمتد هذه الجذور الى أعماق قلوب البشر.
فيجب على كل شخص الجهاد لإقتلاع جذور هذه الفتنة. ولو أثمر هذا الجهاد لصلح كل شيء.
ولدي: إسع جاهداً للظفر في هذا المجال، أو في بعض مراحله على الأقل. شمر عن سواعد الجد لتقليص الأهواء النفسية التي لا تحد بحد، واستغث بالله العلي القدير فلن يفلح شخص لم يغثه تعالى.
والصلاة ـ معراج العارفين وسفر العاشقين ـ هي مفتاح الوصول الى هذه الغاية. وإن وفقت ووفقنا لأداء ركعة منها ومشاهدة الأنوار المكنونة فيها والأسرار المكتنفة لها، ولو بمقدار تحملنا، فقد شممنا شمة من غاية ومقصود أولياء الله، ورأينا منظراً من صلاة معراج سيد الأنبياء والعرفاء صلى الله عليه وآله ؛ ويكون الله تعالى قد منّ علينا وعليكم بهذه النعمة العظمية.
ما أبعد الطريق وكم هو محفوف بالمخاطر ويتطلب المزيد من الزاد والراحلة، ولا يملك أمثالي من الزاد سوى النزر القليل والكم الزهيد، إلا إذا شملتنا يد العناية الالهية.
ولدي البار: استثمر شبابك بمقدار ما تبقى ففي الهرم تفقد كل شيء حتى الاهتمام بالله جل وعلا والآخرة. من مكائد الشيطان والنفس الأمارة بالسوء أن يعد الشباب بإصلاح أنفسهم عند الهرم والمشيب ليفوت عليهم فرصة اغتنام شبابهم، ويعد الكهول بطول العمر. ويصد الانسان عن ذكر الله والاخلاص له بوعوده الواهية حتى آخر لحظة من عمره وحلول الموت، حينئذ يسلب إيمانه إن لم يكن قد سلبه سلفاً.
إذن جاهد نفسك في شبابك مادمت تمتلك قوة أكبر، وفرّ عن غير الله تعالى، واجعل ارتباطك به وثيقاً الى أبعد الحدود إن كان لك به ارتباط، وإلا فاستجلبه واعمل على ترسيخه، حيث لا يستحق موجود سواه هذا الارتباط. والارتباط مع أوليائه إن لم يكن من أجل الارتباط به فهو من خدع الشيطان. لا تنظر بعين الرضا الى نفسك وعملك مطلقاً فكذا كان أولياء الله الخلص يرون أنفسهم لا شيء، ويعدون حسناتهم سيئات أحياناً.
عزيزي: كلما ارتفع مقام المعرفة ازداد الشعور بتفاهة غير الله جل وعلا. هنالك تكبير بعد كل حمد وتسبيح في الصلاة ـ تلك المرقاة للوصول الى الله ـ كما أنّ فى الدخول إليها تكبيراً أيضاً، وهو يشير الى أنّه أكبر من أن يحمد، وهناك تكبيرات بعد الخروج منها أيضاً، وهي توحي بعلو ذاته وصفاته وأفعاله وتنزهه عن التوصيف.
ماذا عسانا قائلين؟ من الواصف، وماذا يصف؟ ومن الموصوف؟ وبأي لسان يوصف؟ حيث لا وجود للعالم بأسره من أعلى مراتب الوجود الى أسفل السافلين، فالوجود له فقط. فان نطق أولياؤه بكلمة أو حديث فمنه لا من غيره ، ولا يستطيع أحد التمرد عن ذكره، فكل ذكر يعود إليه. «وقضى ربُّكَ ألا تعبدُوا إلا إيّاهُ» ([3]) ؛ و«إياكَ نعبدُ وإياكَ نَسعتينُ»([4])، ويحتمل أن يكون هذا خطاب منه تعالى لكافة الموجودات: « وإنْ من شيء إلا يُسبحْ بحمدِهِ ولكنْ لا تَفقهونَ تسبيحَهُم » ([5])، وهذا بلسان الكثرة أيضاً وإلا فهو الحمد والحامد والمحمود: « إنّ ربّكَ يُصلي» ([6])، «اللهُ نورُ السماواتِ والأرضِ»([7]).
ولدي: نحن نعجز عن شكره على نعمه اللامتناهية، فمن الأفضل ألاّ نغفل عن خدمة عباده، فإنّ خدمتهم خدمة له لأنّهم جميعاً منه. لا تمنّ على خلق الله أبداً إزاء تقديمك خدمة لهم ، فإنّهم أصحاب الفضل علينا حقاً والواسطة لتقديم الخدمة له جل وعلا. ولا تستغل تقديم الخدمة لهم في نيل السمعة والشعبية، فإنّ هذه من دسائس الشيطان الذي يمكر للايقاع بنا. واختر ما ينفع عباد الله لا ما ينفعك وأصدقاءك، فانّ هذه علامة الصدق والاخلاص له جل وعلا.
ولدي العزيز: إنّ الله تعالى حاضر وشاهد على ما في العالم بأسره، وصفحة نفسنا إحدى صحف أعمالنا. حاول اختيار ما يقربك منه فانّ في ذلك رضاه. لا تؤاخذني بأنّني لو كنت صادقاً فلَم لم أكن كذلك؟ فأنا أعلم بأنني لا أتصف بصفات ذوي القلوب الخالصة، وأخشى أن يكون قلمي في خدمة إبليس والنفس الأمارة بالسوء، فأحاسب على ذلك غداً، لكنّ أساس هذه المواضيع ينطبق على الحق برغم أنّها جرت على قلم كقلمي وأنا لا أبعد كثيراً عن الخصال الشيطانية. وها أنذا أستجير بالله العلي القدير في هذه اللحظات الأخيرة، وأتأمل الشفاعة من أوليائه جل وعلا.
ربنا! اجعل هذا العجوز الضعيف وأحمد الفتي تحت رعايتك، وأحسن عواقبهم وظللهم برحمتك الواسعة واهدهم صراطك المستقيم.
والسلام على من اتبع الهدى
مساء 15 ربيع المولود 1407 هـ.ق
روح الله الموسوي الخميني