تحولت المدينة الساحلية إلى خطّ أحمر عند خليفة حفتر وحلفائه، فيما صارت السيطرة عليها الهدف الأساسي لـ«الوفاق الوطنيّ». لذلك، يمكن أن يؤدي تجدد القتال إلى تدخل عسكري مباشر، يضع تركيا ومصر وجهاً لوجه
تجمّد القتال في ليبيا، لكن الحرب لم تنتهِ. تواصل قوات المشير خليفة حفتر حشد المقاتلين في سرت والجفرة، الواقعة جنوبيها، والتي تحوي قاعدة جوية يتمركز فيها مقاتلون يتبعون شركة «فاغنر» الروسية، كما راجت أخبار عن زرع ألغام في المناطق التي يمكن استعمالها لشنّ هجمات، على غرار ما جرى عند الانسحاب من جنوب العاصمة طرابلس. أما قوات حكومة «الوفاق الوطني»، فتقول إنها مستعدة لبدء المعركة، لكنها في انتظار الأوامر.
وعقب زيارة وفد أميركي قبل أيام، ضمّ السفير وقائد «القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا» (أفريكوم)، وعقده اجتماعاً مع قادة «الوفاق»، قال آمر «غرفة عمليات سرت الجفرة»، العميد إبراهيم بيت المال، إن نتائج الاجتماع «تسير في جانب إكمال العمليات»، مشيراً إلى حاجتهم إلى منظومة دفاع جويّ لإطلاق الهجوم.
منذ ذلك الحين، لم تتوقف طائرات الشحن بين تركيا ومصراتة، وبين ما حملته صواريخ مضادة للطائرات محمولة على الكتف، كما أظهرت صور نشرها مقاتلون، كذلك أظهرت صور أقمار اصطناعية نشاطاً لقطع بحرية تركية قبالة مصراتة، كما نشرت مقاطع تظهر مقاتلين سوريين يتلقون تدريبات في أحد المعسكرات جنوب طرابلس، إذ ربما يسهم هؤلاء في الهجوم.
في المقابل، توجد عوامل تؤجل استئناف المعارك، فقد كان لتهديد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والدعم الفرنسي الذي تلقاه على لسان نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، مفعول مهم خفّف اندفاع تركيا. فالأخيرة لا تريد أن تتورط في نزاع مباشر قد يودي بما حققته حتى الآن في ليبيا، خاصة أنها تخطّط لحضور طويل الأمد. وسط هذا التصعيد، دخلت الولايات المتحدة على الخطّ، محاولة استرجاع قدرتها على المبادرة ومسك خيوط الملف.
لكن الاهتمام الأميركي ينصبّ في المقام الأول على منع روسيا من ترسيخ وجودها هنا، كما تحاول إيجاد توازن يرضي حلفاءها المتصارعين: الإمارات والسعودية ومصر من جهة، وتركيا من جهة أخرى. لذا، تعمل واشنطن على أكثر من واجهة. ففي الاجتماع الأخير مع مسؤولي «الوفاق»، اتفق على استئناف برنامج تفكيك الجماعات المسلحة وإدماجها في القوات النظامية غرب البلاد، وهو مشروع بدأه وزير الداخلية في «الوفاق»، فتحي باشاغا، عند تسلمه المنصب قبيل إطلاق حفتر هجومه على العاصمة. واتخذت خطوات في هذا الاتجاه، لكن الأمر لن يكون يسيراً، بل يرجّح أن يقود إلى حروب مصغرة بين الجماعات المسلحة، وخاصة في طرابلس.
الإنجاز الأهم للأميركيين حتى الآن هو توسطهم لاستئناف إنتاج النفط وتصديره، بعد أن أوقفته بداية العام قبائل موالية لحفتر. وفي بيان أول من أمس، أكدت «المؤسسة الوطنية للنفط» في طرابلس، وهي تحظى باعتراف دولي حصري لإدارة القطاع، حدوث «مفاوضات على مدار الأسابيع القليلة الماضية بين كل من الوفاق الوطني والمؤسسة وعدد من الدول الإقليمية، تحت إشراف الأمم المتحدة والولايات المتحدة»، لاستئناف عمل المؤسسات النفطية وموانئ التصدير.
وبعد ساعات من تعبير المؤسسة عن أملها في أن «ترفع هذه الدول الإقليمية الحصار»، أعلنت القبائل التي تعطّل نشاط المؤسسات النفطية السماح باستئناف الإنتاج و«تفويض» الملف لحفتر. لكن ذلك لن يكون من دون مقابل، إذ يفترض وضع نظام جديد لتوزيع عوائد المحروقات يصبّ في مصلحة المشير ومحوره شرق البلاد، ما يعني إنهاء احتكار طرابلس تحصيل العوائد وتوزيعها.
قد تقود الجهود الأميركية إلى بعض النتائج، لكنها لن تغيّر المعادلة. فالمسألة الأهم تتعلق بإرساء قواعد تقاسم للسلطة، وهو أمر استنفد أعواماً من الجهود، من دون أن يحقق نتائج ملموسة. الهاجس الآن نزعُ فتيل التوتر حول سرت، وهو أمر ممكن الحدوث، لكن المشكلة الكبرى مرتبطة بإنهاء الأزمة ككل، وهذا أمر صعب، إذ يسعى حفتر للوصول إلى السلطة والاستئثار بها، وتدعمه أبو ظبي والرياض والقاهرة في ذلك منذ أعوام، بوصفه عدواً للإسلاميين.
لذلك، هل يمكن وضع حدّ لمحاولاته السيطرة على العاصمة عسكريا؟ يبدو ذلك متعذراً، لأنه يضع حداً لمشروعه الشخصي وطموح داعميه. أما «الوفاق الوطني»، فترى أنه يجب دحر حفتر شرقاً إلى أبعد حدّ ممكن (خارج سرت والجفرة على الأقل)، لوضع قواعد جديدة للصراع، وتوافقها أنقرة في ذلك، بل ترى أن من الضروري إبعاد الرجل من المشهد لمصلحة شخصيات أخرى من الشرق. ضمن هذا الصراع «الصفري»، قد تتحقق صفقات سلام مؤقتة، لكن الحرب تبدو طويلة، وسرت من أهم عقدها، لكنها في أفضل الأحوال معركة مؤجلة.
بقلم: نجاح محمد
المصدر: جريدة الأخبار