صلح الحديبية
منذ أن أخرجت قريش المسلمين وعلى رأسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن وطنه مكة، كان يشتاق إلى الرجوع إليها، لأنها البلد الأمين والمقدّس عند الله.. ولأنها - مع ذلك - محطُّ أنظار العرب جميعاً.
ولكن الحروب والغزوات التي اكتنفت السنوات السبع بعد الهجرة، والضعف الذي كان يراه في اصحابه، منعاه من المسير إلى مكة.
ولذلك فإنه حين رأى الوقت مناسباً عزم على الزحف إلى مكة وأعلن في المسلمين ذلك. وقال: إنه يريد مكة لأداء مناسك البيت فقط، فسار بألف واربعمائة رجل من المهاجرين والأنصار.
بيَد أن كفار قريش الذين رأوا أن دخول القوم مكة بعد أن أُخْرِجُوا منها من دون أن يلحقهم أذىً، إنَّما هو ضعف وانهزام صريح في وجه المسلمين.
ولذلك فإنهم أرادوا منعه منها، وأرسلوا بطلائع من جنودهم ليقفوا في وجه المسلمين. وحين ذاك تنكّب النبيُّ (صلى الله عليه و آله) عن الطريق المألوف لئلا يصطدم بهذه الطلائع.
ولما عرف الكفار تنكُّبه، وأنه بلغ ثنية المرار اسفل مكة، أرسل النبي (صلى الله عليه و آله) أحد المسلمين ينبئ قريشاً بأنه لم يأتهم محارباً بل معتمراً.
وأرسلت قريش سفراء يريدون من النبي (صلى الله عليه و آله) الرجوع عن عزمه. وكانت من قبل قد أرسلت سرية لمقاومة أعمال النبي (صلى الله عليه و آله) فأخذها المسلمون وحبسوا جميع أفرادها..
ولما أصرت قريش على منع النبيِّ (صلى الله عليه و آله) عن البيت قال النبي لأصحابه:
" لا نبرح حتى نُناجز القوم " وطلب من المسلمين البيعة فبايعوه على الفتح أو الشهادة..
وحينما بلغ قريشاً نبأ البيعة الجديدة للنبيِّ (صلى الله عليه و آله) هابوه فراسلوه على الصلح، فاصطلح معهم بما يلي وكان أهم بنوده:
1- إيقاف الحرب بين الفريقين لمدة سنتين.
2- القادم إلى المسلمين يُردّ وليس بالعكس.
3- رجوع المسلمين هذه السنة وإتيانهم في المقبلة.
4- يستطيع الفريقان قبول عهد من شاء.
وكانت هذه السياسة السليمة التي اتَّبعها النبيُّ (صلى الله عليه و آله) هي التي فتحت عليه طرق التقدم والنجاح، حيث زحف المسلمون لمواجهة العالم الخارجي بعد أن أمنوا الجانب الداخلي، وكان بذلك الحدث التالي.
رسائل النبي
بعد هذا الصلح مباشرة بعث النبيُّ (صلى الله عليه و آله) رسائل إلى زعماء وملوك كافة الدول المجاورة. فراسل ملك الروم، والفرس، والحبشة، والقبط،
كما ارسل رسائل إلى كلِّ من أمير بصرى، وأمير دمشق، وملك البحرين، وأميرَي عمان، وملك اليمامة بشأن الرسالة التي حمّل مسؤولية تبليغها.
وقد كان لهذه الرسائل آثارها البعيدة في نشر لواء الإسلام ومحق آثار الكفر..
أما أجوبة هؤلاء فمنهم من اسلم - وهو كلٌّ من ملك الحبشة، وأمير البحرين، وملكَي عمان - فكان ذلك فتحا مبيناً للإسلام. ومنهم من لم يسلم ولكنه احترم الرسول فايَّده، وهو كلٌّ من ملك الروم وملك القبط وملك اليمامة.. ومنهم من أساء " إلى الرسول واستهزأ به وهو كلٌّ من ملك الفرس، وأمير بُصرى وأمير دمشق ".
فتح المكة
وفي السنة السابعة للهجرة اعتمر النبيُّ (صلى الله عليه و آله) على رأس أصحابه الذين كانوا في الحديبية. وفسح الكفار المجال أمامهم، وخرجوا عن مكة لئلا يقع تضارب بين الفريقين - على ما كان يتضمنه أحد بنود الصلح الماضي -
. وكانت هذه المرة أول مرة يدخل فيها النبيُّ (صلى الله عليه و آله) مكة بعد هجرته عنها بسبعة أعوام.
ورجع النبي (صلى الله عليه و آله) إلى المدينة بعدما بقي في مكة ثلاثة أيام.
وبعد ذلك نقضت قريش بعض بنود الصلح بأن كانت قبيلة تسمى ب خزاعة " معاهدة مع النبيّ " وكان على قريش ألا تُحاربها والاّ تُعين عليها أعداءها، لكنها فعلت ذلك.
وحلّ للنبي (صلى الله عليه و آله) بذلك قتالها، فجمع أصحابُه وجمع من القبائل المسلمة التي كانت تقطن حول المدينة عدداً كبيراً، وزحف نحو مكة بعد أن ملأ الطريق عيوناً ورقباء على السائرين، لكي لايصل خبر خروجه إلى قريش فيتم الأمر بالحرب التي لايريدها النبي (صلى الله عليه و آله) أبداً.
ولما بلغ النبيّ بجيشه حي ظهران بقرب مكة، أمر أصحابه بأن يُكثروا من إيقاد النار، ففعلوا ذلك.
فاسترهب ذلك قلوب الكفار أَيَّ استرهاب، وكان أبو سفيان يراقب طريق مكة إذ رأى النار فملكه الرعب ؛ والتقى بالعباس - عمّ النبيّ (صلى الله عليه و آله) فحمله إلى النبي (صلى الله عليه و آله) ودار بينهما محادثات تمت بإظهار ابي سفيان للإسلام وبإسلام بعض أبطال قريش وزعمائها قبله، ففقدت مكة قوَّتها.
ومنعتها، ولم تملك قوة تدافع ضد دخول النبيِّ إليها. وقد انتهج النبيّ (صلى الله عليه و آله) مسلكاً فريداً في هذا الهجوم العسكري، وذلك بأن أعلن قبل الزحف إلى مكة أنَّ من ألقى السلاح أو دخل دار أبي سفيان أو دخل داره أو فناء الكعبة أو تحت لواء أبي رويحة فهو آمن.
ثم أمر قواته بإحاطة البلد والزحف عليها من جميع جهاتها، وألاّ يقاتلوا إلاّ من قاتلهم.. ثم دخل مكة من دون أن يعترض أحد طريقه إلاّ من جهة أسفل مكة حيث جاء منها خالد بن الوليد، وقَتل اثنَي عشر نفراً ممن عارضه، وقُتل من المسلمين واحد.
ثم أعلن النبيّ (صلى الله عليه و آله) في البيت الحرام العفو العام عن المشركين جميعاً، أثناء خطبة ألقاها عليهم..
وبفتح مكة تمت السيطرة المطلقة للمسلمين على الجزيرة العربية التي كانت تعتبر مكة دينها ودنياها معاً.
ثم أمر النبيّ (صلى الله عليه و آله) بهدم - الأصنام - التي كانت تُعبد من دون الله فهدمت جميعاً.
وبعد ذلك سمع النبيّ بأنَّ قبائل عربية اتَّحدت تريد الانقضاض على مكة للقضاء على المسلمين، ومن بين تلك القبائل هوازن وثقيف.. فلما تحقق النبيّ (صلى الله عليه و آله) الخبر جند اثنّي عشر ألفاً من المسلمين وتوجه إليها، فالتقى الجمعان في وادي حُنين، حيث كان مضيق جبليٌّ واقع بين جبلَين.
وقد كان العدو قد سبق المسلمين إلى احتلال المواقع العسكرية في الجبلين. وحينما زحف المسلمون إلى العدو بين الجبلين انقض الكفار عليهم انقضاضاً، فهزمت طائفة منهم ثم التقت بالطائفة التي بعدها فسادت الفوضى في الجيش الإسلامي، وهُزموا هزيمة قبيحة.
بيد أن النبيّ (صلى الله عليه و آله) بقي صامداً. وبقي معه بعض المسلمين ثم اجتمع فلول المسلمين حتى كوَّنوا جبهة حاربوا بها الكفار وغلبوهم.
وحيث إن الكفار كانوا قد أخرجوا جميع ممتلكاتهم ونسائهم إلى ساحة الحرب لعل ذلك يسبّب قوةً لمعنويات الجيش، فإن المسلمين ربحوا غنائم كثيرة. واستعمل النبيُّ (صلى الله عليه و آله) تلك الأموال في تأليف قلوب قريش، ثم عزم الرجوع إلى المدينة.
وقبل الرجوع أرسل سرايا من المسلمين في ملاحقة المنهزمين من الكفار الذين أرادوا التجمع مرة أخرى وايقاد نار الحرب.
ومن تلك السرايا، قوة مسلحة إلى الطائف حيث تحصَّن الكفار فيها.. بيد أن حصون الطائف كانت أمنع من أن يتغلب عليها المسلمون فرجعوا وعندما بلغ النبيّ (صلى الله عليه و آله) المدينة تقاطرت عليه الوفود من جميع أنحاء الجزيرة يعلنون دخولهم في الإسلام ويطلبون منه ارسال المبلّغين المرشدين لهم.
وفي السنة التالية لفتح مكة نزلت سورة البراءة التي أعلنت انتهاء الدور المظلم للجزيرة وابتداء الدور المشرق.
فأرسل النبي (صلى الله عليه و آله) الإمام علي بن أبي طالب إلى مكة حيث تلا هذه السورة في الحجَّاج المحتشدين في منى..
وأعلن بصراحة منع دخول المشركين إلى المسجد الحرام لأنهم نجس ولإن الله بريء منهم..
كما أعلن أنه لا عهد ولا ذمة لمشرك، وان دم كل مشرك حلال بعد أربعة أشهر.
وبعد هذا الإعلان لم يبق في الجزيرة من يظهر الشرك، إلاّ فلول منهزمة مختفية على خوف من المسلمين. فأخذ الرسول يتأهب لمقاتلة الروم، وقد كانت طلائعهم تستقي في أرض الشام التي كانت إمارة عربية تابعة للأمبراطورية الرومية.
فزحف بالجيش الإسلامي، الذي كان عدده أكثر من ثلاثين ألفاً. وكانت الخيل عشرة آلاف. وكان المسلمون مدججين بالسلاح الكامل.
وكان فعلُ النبيِّ (صلى الله عليه و آله) ذلك بعد اشاعة راجت في المدينة بأن جيش الروم قاصد لفتح الجزيرة العربية وإبادة المسلمين.
ولكن حينما وصل النبيُّ بجيوشه إلى تبوك عرف كذب الإشاعة، فصالح أهل تلك البلاد وملك الروم.
ثم رجع بعدما جعل من أهل الحدود الشامية الحجازية مرابطين له ضد الأعداء، وبعدما زرع الخوف والذعر في قلوب الرومانيين بمباغتة المسلمين لهم.
حجة الوداع
وفي السنة العاشرة بعد الهجرة اعتزم النبيُّ (صلى الله عليه و آله) أن يحج، فاجتمع إليه المسلمون من كل مكان.. فلما اكتمل عددهم سار بهم إلى مكة حيث أراهم كيفية الحج بعدما مُنع المشركون من إجراء مراسم الحج في السنة التاسعة.
فلما أتم النبيُّ (صلى الله عليه و آله) مناسكه خطب في المسلمين خطبته المشهورة التي بيَّن بها تعاليمه الدينية والخلقية ورجع قاصداً المدينة.
ولعل بعض من رافق النبيَّ (صلى الله عليه و آله) في هذه الرحلة المقدسة لاحظوا بوضوح مظاهر القلق والاضطراب في ملامحه كل حين، كأنِّه يريد إبداء شيء يخاف منه أو يرتقب فرصة أخرى أفسح وأولى !!
ولكنَّ هذه الحجة كانت الحجة الأخيرة للنبيِّ (صلى الله عليه و آله). ولذلك سمّيت بحجة الوداع. ومن الضروري أن يبيِّن فيها النبيُّ كل شيء يتعلق بمصالح المسلمين وشؤونهم السياسية والدينية. وإنّ أهم هذه الشؤون هي السلطة. فإذا توفي النبيّ (صلى الله عليه و آله) اختلفت العرب الذين لم يتسرّب الإسلام إلى قلوبهم كما هو في واقعه، وتنازعت أمرها وذهب الدين ضحية للإختلاف.
ولقد أنبأه الوحي بأنَّ السلطة تكون من بعده لعليِّ بن أبي طالب (ع)، أوّل من آمن بالله وبرسوله (صلى الله عليه و آله)، وأشدَّ من أَبلى في سبيله، وأقضى المسلمين وأفضلهم.
ولقد ذكر النبيُّ (صلى الله عليه و آله) ذلك للمسلمين مراراً إِلاّ أن خوف النبيّ (صلى الله عليه و آله) كان شديداً لمستقبل الأمة، حيث رأى في المسلمين بعض الذين يهدفون للسيطرة وقد التفوا حول النبيِّ لها فقط..
فلما كان النبيُّ (صلى الله عليه و آله) بمنزل " كراع الغميم " من أراضي عسفان نزلت عليه الآية المباركة تقول:" فَلَعَلَّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقُ بِهِ صَدْرُك " (هود/12).
ولمّا بلغ غدير خم نزلت عليه هذه الآية:" يَآ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ اُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ الله لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " (المائدة/67).
واطمأن النبي بنصرة الله في خلافة علي (ع) فعزم على الأمر وأمر المسلمين بأن ينزلوا في ذلك المكان وبأن يجتمعوا.
فلما اجتمعوا قام فيهم خطيباً وأعلن خلافة علي ( عليه السلام) قائلاً، بعد خطبة كريمة: "
من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه.
اللهم والِ من والاه
وعاد من عاداه
واحبَّ من أحبَّه،
وأبغضْ من أبغضه،
وانصر من نصره،
وأعزْ من أعانه
وأخذلْ من خذله،
وأَدِرِ الحقَّ معه حيث دار
". ثمَّ أمر المسلمين بالبيعة له، والسلام عليه بإمرة المؤمنين..
ولما تمَّ أخذُ البيعة جاءت الآية الأخيرة التي أعلنت إكمال الدين وتمامه:
" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً " (المائدة/3).
وبعد رجوعه إلى المدينة.. سيّر جيشاً كبيراً فيه أبو بكر و عمر وكثير من المهاجرين والأنصار، وأَمَّر عليه أسامة بن زيد وهو فتىً لم يبلغ العشرين - سيّر هذا الجيش إلى الشام حيث قُتل جعفر وزيد أبو أسامة القائدان للجيش الإسلامي..
ومع حِرصِ النبيِّ (صلى الله عليه و آله) على أن يخرج هذا الجيش في أقرب وقت ليبعد العناصر الفاسدة في المسلمين الذين كان يخشى منهم على مستقبل الأمة ومصيرها، في حين كان يرى اقتراب أجله..
ومع ذلك فإن المنافقين أرجأوه، حتى أمر النبي (صلى الله عليه و آله) أسامة بكل إصرار على متابعة سيره فعسكر بالجرف على فرسخ من المدينة.
بيد أنَّه اشتد خلال ذلك مرض النبي (صلى الله عليه و آله) الذي كان سببه السم الذي سُقيه على ما يذهب إليه بعض الرواة،
وقد دس إليه بيد بعض اليهود. فرجع أفراد الجيش إلى المدينة مع أن النبي (صلى الله عليه و آله) لعن من يتخلف عن الجيش أشد لعنة.