وحينما سمع الكفّار بذلك قالوا في ما بينهم : إنَّ المسلمين إذا اجتمعوا في المدينة ، كَوَّنوا قوةً معارضة تكلفنا كثيراً من المال والدم... ففكروا في إعاقة الهجرة بمنع المسلمين ترغيباً أو ترهيباً.. بيد أنَّ المسلمين أخذوا يفلتون من أيديهم تحت أجنحة الظلام وفي غياهب الليل .. فقال الكفَّار لأنفسهم : إنَّ النبيّ لايزال بين ايدينا ، وليس له منعة عنّا. فلو هاجر إلى المدينة وجمع أنصاره حوله، فهنالك يصبح من الصعب القضاء عليه. فاجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا في الأمر. حتى استقر رأيهم على أن يأتوا من كل قبيلة برجل ، ثمَّ يهجموا على النبيِّ هجمةً واحدةً فيقتلوه ويضيع دمه بين قبائل العرب ، فلا يستطيع بنو هاشم من أخذ الثأر منهم .
واختاروا من كل عشيرة رجلاً ، فجاؤوا وأحاطوا بدار النبيِّ (صلى الله عليه وآله) ، ولكن الوحي نزل وأمره بأن يتخذ الليل جملاً مهاجراً إلى المدينة ، ثم أوضح له كل شيء من تدابير قريش وخططهم.
فجعل النبي الإمام عليّاً مكانه يبيت في فراشه لكي يظن الكفار ان النبيّ (صلى الله عليه وآله) موجود فيشتغلوا به ويخرج هو من طريق آخر .. فبات الإمام على فراش الموت ينتظر المصير الكائن .. بينما ذهب النبيّ يلتمس طريقه إلى غار ثور .. حيث بقي هناك وقتاً كافياً ثم سار إلى المدينة على غير الجادة ، لكي لا تلحقه قريش أو عملاؤها الذين جعلت لكل من أخذ محمدً منهم مقداراً كثيراً من المال .
وعندما وصل النبيّ إلى المدينة احتفلت احتفالاً رائعاً بقدومه ، وسارت فيها مواكب السرور بأهازيج الفـرح.
وتمت بذلك الهجرة النبويَّة التي كانت بداية حياة جديدة للمسلمين ، حياة العزة والمنعة ، وحياة الدفاع عن حقوقهم ، والجهاد لأعدائهم ، وحياة التوسع والانطلاق إلى آفاق العالم .. وفي الواقع كانت الهجرة بدء تكوين الأمة الإسلامية الموحدة ولذلك اتخذ المسلمون منها بدء تاريخهم الديني ، لأنها كانت أهم الأحداث بالنسبة إليهم .
وبقيت في مكة طائفة من المسلمين تَمَّ ترحيلُهم ايضاً بقيادة الإمام علي بن أبي طالب (ع) ، بعد التغلب على صعوبات شديدة . وهناك فكّرت قريش في أساليب أخرى للقضاء على الإسلام والمسلمين بعد ما فات وقت الأساليب السابقة .
الأساليب الجديدة كانت توجز في خطتين اتبعتهما قريش الواحدة تلو الأخرى :
الخطة الأولى : كانت بعث رسائل إلى أهل المدينة يريدون فيها منهم تسليم محمد (صلى الله عليه و آله) إليهم مع شيء من الترهيب والترغيب ، بيد أن المسلمين هزئوا بهذه الفكرة ، وسخروا من أهلها ، وبعثوا بقصيدة هجائية إلى قريش بيَّنوا بها جوابهم الصريح بعد أن أثبتوا حقيقة النبي (صلى الله عليه و آله) وحقيقة قريش التي تناوئه.
والخطة الثانية : وضع الحصار الإقتصادي على المدينة حيث كانت لقريش كل التجارة العربية .. وكانوا قد أمَّنوا طرق تجارتهم بالتحالف مع القبائل البدوية التي كانت تسكن في طريق الشام وطريق اليمن . فأصدروا إليها بياناً حظروا فيه بيع المواد الغذائية لأهل المدينة ، أو الإجازة لمرور القوافل التجارية لأهل المدينة التي ترمي إلى استيراد المواد إليها.
وأما النبي (صلى الله عليه وآله) الذي أخذ على عاتقه مسؤولية الدفاع عن المدينة والذي كان يرى أن الحصار الإقتصادي الذي ابتلي به أهل المدينة إنما هو لأجله وبسببه . فإنه دبر خطة دفاع عن هذا الحصار بما سيأتي من أمر غزوة بدر، إلاّ أنه يجب علينا أن نلقي نظرة عاجلة على حالة أهل المدينة وامكانيتهم المادية والمعنوية قبل الحديث عنها .