البث المباشر

من وحي القرآن.. فرعون يستمع إلى موسى عليه السلام

الأربعاء 5 فبراير 2020 - 12:07 بتوقيت طهران
من وحي القرآن.. فرعون يستمع إلى موسى عليه السلام

وكان فرعون يستمع إلى موسى بهدوء غريب، فلم يثر، ولم يتشنّج، ولم يتعقّد من هذا الكلام.. هذا ما يوحي به الجوّ على الأقلّ، وربما أثار فيه نوعاً من التّساؤل والفضول الباحث عن المعرفة، فاستسلم لهذا الجوّ الغامض الجديد الذي أخذ عليه كلّ شعوره، حتى ليخيّل إليه أنه يعيش في جوّ مسحور.

 

{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يا مُوسَى}، إنهما يحدّثانه عن ربّه، كما لو كان معترفاً به، ولكن الربّ يحتاج إلى اعترافٍ من المربوب ليستكمل علاقة الربوبيّة بطريقة طبيعيّة، لأنّ الناس قد اعتادوا أن يتخذ كلّ واحد منهم ربّاً لنفسه، في ما يتعبَّد له، أو يقدّم له القرابين، أو يمارس معه الطقوس، انطلاقاً من شعوره بالضّعف أمامه، أو بحاجته إلى قوّة فوقيّة يخترعها خياله إذا لم تكن حقيقة، أو بالإيحاء الداخلي بأنّه يملك أسراراً غيبيّة مقدَّسة بالمستوى الذي يجعله أقرب إلى ربّ الكون من غيره، فيقرب الناس إليه ليكون معبودهم.

 

وهكذا كان اعتراف موسى وهارون به موجباً لحدوث علاقة الربوبيّة والمربوبيّة بينهم. ولكن كيف ينسبانه إليه، وهو لا يعرفه ولا يعترف به؟ فليتجاهل هذه النّسبة، وليسألهما عن طبيعته، فلعلّ المعرفة الحاصلة بالجواب، توحي إليه ببعض الأفكار التي تدفعه إلى موقف إيجابيٍّ أو سلبيٍّ في المسألة.

 

{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يا مُوسَى}، وكان الخطاب لموسى، لأنّه هو الشخص الأصيل في الموقف في ما تصوّره فرعون من دراسة المسألة، وفي ما هو الواقع.

 

{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، فهو الذي أوجد كلّ شيء ثم لم يهمله ليتركه ضائعاً، بل منحه الهدى الذي يتدخّل في عمق وجوده وتكوينه، فينظّم له حركة نموّه وتكامله ووصوله إلى الغاية المطلوبة لوجوده. وبهذا كانت ربوبيَّته للخلق منطلقة من طبيعة الإيجاد الّذي يمنح الموجودات الحياة، ومن الإشراف الدّائم والرعاية الكاملة لها في رحلة الوجود، ما يوحي بالربوبيّة الشّاملة الكاملة التي لا تغيب عن الوجود في أيّة لحظة، كما لا يغيب عنها الوجود في أيّ وقت، لاحتياجه الدائم إلى غناها المطلق.

 

وهكذا قد نجد الهدى قائماً في الأشياء بذاتها عبر قوانينها الكونيّة المودعة فيها، وقد نجده في العقل الكامن في الإنسان الذي يدبر الوجود بشكلٍ مباشرٍ وبوعيٍ اختياريّ مباشر.

 

{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى}. ربما كان السؤال عن القرون الأولى، في نطاق السؤال عن أمر المعاد الذي هرب إليه فرعون، بعد أن أعياه مواجهة أمر الربوبيّة في ما فصّله موسى من الحديث عنها بما لا مجال فيه للردّ والاعتراض، فكأنّه قال لموسى، ما حال الأمم والأجيال الماضية الذين لا يرون ما ترى، وقد ماتوا وانتهوا في عالم الفناء والنّسيان، فكيف يعذّبون، كما تقول؟! إنّ العذاب على من أدبر وتولى، وكيف يواجهون المسؤوليّة، فكيف يرجعون من جديد لينالوا ما يستحقّون، كما تزعم؟!

 

{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}، فكان جوابه أنّ علمها عند الله، فهو محيطٌ بأشخاصهم وأعمالهم، فلا يفوته منها شيء، ولا يغيب عنه شيء، فهو مثبت في كتاب محفوظ واسع شامل لدى الله الذي لا يضلّ عن حقائق الأشياء، ولا ينسى ما علّمه منها، لأنها حاضرة لديه حضوراً مطلقاً، لا حدود له في كلّ جوانبها. وهكذا يملك أمرهم وحسابهم من خلال إحاطته المطلقة بكلّ أمورهم في ما عملوه، فيحاسبهم على ذلك بشكل دقيق.

 

العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله

*من كتاب "تفسير من وحي القرآن"

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة