البث المباشر

مزار الإمام الرضا عليه السلام

الإثنين 28 يونيو 2021 - 12:58 بتوقيت طهران
مزار الإمام الرضا عليه السلام

الإمام الرضا (عليه السلام) بيّن للناس كلمة الفصل في الإمامة الإلهيّة التي اختلف في شأنها المسلمون.

دخل عليه عبد العزيز بن مسلم في «مرو»، ليحدّثه بما خاض فيه الناس هناك من أمر الإمامة. فتبسّم صلوات اللَّه عليه وقال فيما قال: يا عبد العزيز، جَهِل القوم وخُدِعوا عن أديانهم. إنّ اللَّه تبارك وتعالى لم يقبض نبيَّه (‏صلى الله عليه وآله) حتّى أكمل له الدين وأمرُ الإمامة من تمام الدين فمَن زعم أنّ اللَّه لم يُكمل دينه فقد رَدّ كتاب اللَّه عزَّ وجلّ.
هل يعرفون قَدْرَ الإمامة ومحلّها من الأمّة، فيجوز فيها اختيارُهم؟! إنّ الإمامة أجَلُّ قدراً، وأعظَمُ شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنَعُ جانباً، وأبعَدُ غَوراً من أن ينالها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يُقيموا إماماً باختيارهم.
الإمام كالشمس الطالعة المُجَلِّلة بنورها للعالم، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.
الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى.
الإمام الماء العَذْب على الظَّما، والدالّ على الهدى، والمنجي من الردى.
الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل، والشمس المضيئة، والسماء الظَّليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة.
الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والأمّ البَرّة بالولد الصغير.
أتظنّون أنّ ذلك يوجد في غير آل الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله)؟!
والإمام عالِم لا يَجهل، وراعٍ لا يَنكل. مَعدِن القدس والطهارة، والنُّسك والعبادة. مخصوص بدعوة الرسول، ونسل المطهَّرة البتول.
نامي العلم، كامل الحِلم، مُضطَلِع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر اللَّه عزّ وجلّ، ناصح لعباد اللَّه، حافظ لدين اللَّه.
إنّ الأنبياء والأئمّة صلوات اللَّه عليهم يوفّقهم اللَّه ويُؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرَهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان، في قوله تعالى: «أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»؟! (يونس، ۳٥).
*******
قبل دخول المزار

في البدء كانت النقطة، وكانت مركز دَفق نوريّ لا يتوقّف.
هذه حكاية التربة القدسيّة التي اختارها اللَّه تبارك وتعالى لتلامس الجسد الملكوتيّ الأقدس لفلذة رسول اللَّه المصطفى (‏صلى الله عليه وآله) وحبيب قلبه، سيّدنا ومولانا أبي الحسن الرضا عليه أنمى التحيّة والسلام، يوم تَشَرَّفَت به هذه الأرض القصيّة شهيداً مظلوماً غريباً أحبَّ وأنوَرَ ما يكون الشهداء الصدّيقون من أئمّة آل محمّد صلوات اللَّه عليه وعليهم أجمعين.
من حينها اتّخذت هذه البقعة - في ظاهر تاريخ الأرض - معنىً خاصّاً كلّه هداية ونور، وكلّه أمل ومعرفة ويقين، وكلّه حبّ ومودّة وعشق صاعد بالإنسان إلى محضر اللَّه عزّ وجلّ.
والأئمّة من أهل البيت‏ (عليهم السلام) هم الأدلّاء على اللَّه والسبيل الأوحد إليه؛ فما كمعرفتهم للَّه سبحانه معرفة، ولا كعلمهم بالطريق إليه علم، ولا كرحمتهم ورأفتهم بخلق اللَّه رحمة ورأفة، ولا مثل حنانهم عليهم ومحبّتهم لهم من حنان وهم الذين لا يُقاس بهم من الناس أحد.
وهم في حياتهم الزمنيّة على الأرض هم أنفسهم في حياتهم الملكوتيّة الخارجة عن قيود الزمان والمكان: هداية بصيرة، وشفقة دائمة، ودعوة مستمرّة للصعود بالبشريّة إلى اللَّه تعالى والعودة إليه من جديد في سفر معنويّ نفيس هو من وجود الإنسان الهدف، ومن كينونة ابن آدم على الأرض الغاية.
وهو ذا أبو الحسن الرضا (صلوات اللَّه عليه) ما يفتأ يلوّح ويدعو ويجذب القلوب لتُقبِل عليه، فيأخذها بحنانه إلى آفاق الملكوت، مُطهِّراً إيّاها من الضعف والانكفاء، ومنقذاً لها من الإخلاد إلى أرض الظلام. إنّه إمام البشريّة كلّ البشريّة، وقائدها جميعاً إلى اللَّه كما هو شأن آبائه وأبنائه من آل محمّد الطاهرين المطهِّرين.
ومزاره - وهو الإمام الحيّ بولايته المطلقة لله ولاستشهاده في اللَّه، ولغيرهما من المعاني الجليلة - كان وما يزال وسيظلّ قِبلةً للأفئدة المشتاقة إلى اللَّه، وملاذاً للأرواح الوالهة التي تنشد - في رحاب أولياء اللَّه - الأمان والسكينة والاطمئنان.
إنّ تربته الزاكية هي نفسها تربته: أزُرناها أرضاً فضاءً، أم زُرناها منصوبةً عليها هذه المباني النورانيّة السامية من قِباب ومنارات وأروقة وصحون. ونحن إنّما نزور - في زيارتنا مرقده الطاهر - المعنى الرضويّ الواسع العظيم، ونُقبِل بكلّنا على ما يموج به وجوده المقدّس من الأسرار الإلهيّة التي لا تنقضي؛ لنعود إليه ذائبين فيه، كما تعود القطرة إلى المحيط وتَفنى فيه إلى الأبد، حيث حياة السلام الشامل والطمأنينة الباقية والنعيم الذي لا يزول: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي» وحيث «لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ».
وقد أحسّ الناس - عبر مراحل تاريخ المزار المتعاقبة - بشي‏ء من هذا المعنى الرضويّ الحاضر الغنيّ في بقعة طوس، ولمسوا منه ما يدلّهم على حقيقة «الإنسانيّة» ونزاهة «الوجدان» ومَراقي «التوحيد»، وعَهِدوا من بركاته ما يفرّج عنهم ظلمات الكروب، ويفتح مغالق أعسر المعضلات، فإذا هم يُقبِلون عليه والهين، وإذا هم يؤمّون مزاره الحبيب الرابض مناراً كونيّاً متألّقاً بين جبلَي طوس.
وبدأوا - جيلاً بعد جيل - يشيّدون من حوله من المباني والغُرُفات ما يلبّي حاجاتهم في زيارته لكأنّهم طيور يُضنيها في صحراء الدنيا الرحيل، فتتلمّس لديه الأمن والأمان والراحة والعشّ الحاني الرحيم.
وكانت قرية «سَنا آباد» الصغيرة تتحوّل مع الأيّام إلى مدينة كبيرة شاخصة يتعالى في نقطة القلب منها هذا المزار الرضويّ المبارك الرفّاف بالخيرات والبركات والهدايات الربّانيّة السخيّة، حتى آلَ المزار الكريم إلى ما نلقاه اليوم من سعة في الرقعة، ومن تعدّد في المعالم، ومن روعة في العمارة وتفنّن في البناء، ليكون صدراً حانياً يضمّ - بشفقةِ الأب الرؤوف - ملايين زائريه الذين يؤمّونه من كلّ فجّ من فجاج الأرض عميق.
إنّه بيت كرم الرضا (سلام اللَّه عليه)، الذي يفتح ذراعيه مبسوطتين للاستقبال. وإنّه بيت رأفة الرضا الذي يحتضن خلق اللَّه من شتّى الأقطار والأصقاع، على تنوّعٍ منهم مذهل: في اللغة، والعِرق، والطبقة، والمذهب، والبلاد وعلى تعدّد منهم وفير في الحاجة وما تنبض به في دواخلهم دقّاتُ القلوب.
هو ذا إذن المزار الرضويّ الكبير بسعته وجماله وحنانه الذي ما له من نظير وإنّه لَحَقٌّ بيتُ سلطان القلوب، بقدرته القادرة وبرأفته الغامرة للقريب والبعيد. ترى، أيّ سلطنة إعجازيّة متفرّدة هذه التي تجمع بين القدرة والرأفة في وحدة واحدة لا تنفكّ، وتَظهر عظمةً جليلة تتداخل فيها الشفقة والمحبّة والسخاء الواهب المستديم بشكل لا يقبل التجزئة والانفصال؟!
ولا غَرو، فهذه السلطنة الرضويّة الفخمة الشفيقة هي مظهر لسلطان اللَّه العزيز الرحيم، ومَجلى لقهّاريّته ورأفته بالعباد.
إنّه رضا آل محمّد (صلى الله عليه وآله)، نبعة محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات اللَّه عليهم. وتلك إرادة اللَّه عزّ وجلّ يوم اجتباهم وطهّرهم وجعلهم أحبّاءه الخالصين، وأبوابه القدسيّة المُشرَعة إلى الخلق يدخلها الذين يدخلونها فيجدون اللَّه عندها حاضراً سميعاً بصيراً يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وما عليهم إلّا أن يستجيبوا له ويؤمنوا به لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ. وإنّهم لَيَرشُدون حقّاً متى أتوه من أبوابه التي وضعها للخلق، عارفين خاشعين متذلّلين، آمِلين ما عنده، طالبين ما لديه؛ لأنّهم سلكوا الدرب الصحيح، فأتَوا البيوت من أبوابها لا كمَن يهجر الباب أو يضلّ عنه، فيحدّث نفسه أن يدخل متسلّقاً الجدارَ فِعلَ السارقين.
«اللّهم صَلِّ على‏ عليِّ بنِ موسى الرضا المرتضى الإمامِ التقيِّ النقيِّ، وحُجّتِكَ عَلى‏ مَن فَوقَ الأرضِ ومَن تحتَ الثرى، الصِّدِّيقِ الشهيدِ، صلاةً كثيرةً تامّةً زاكيةً متواصلةً متواترةً مترادفة، كأفضلِ ما صَلّيتَ على‏ أحد من أوليائك».

*******
موائد الضيافة الرضويّة

أيّام الزيارة التي يحظى بها زوّار الإمام الرضا (عليه السلام) يظلّ لها - على امتداد حياتهم - أثر عابق عالق بالقلب والروح والذاكرة، وتظلّ تحتفظ بنكهتها الخاصّة المميَّزة محطّةً فريدة مُحبَّبة تناغي القلب وتتدفّق بالحنين، جاذبةً صاحبها إلى مُعاوَدة الزيارة حيناً بعد حين؛ فالمرء في رحاب الرضا لا يشبع من لذّة التَّطواف التعبّدي، ولا يكفّ عن الإقبال على حضرة الرضا (عليه السلام) بشوق غامر يستعصي على التحليل والتفسير.
هنا هذه الروضة البهيّة بمعنويّتها الشفّافة المتصاعدة، وبهذا الضريح الفيّاض بالأنوار وبالأسرار نقطةً مركزيّة تهوي إليها القلوب، وتتوافد عليها الأماني والآمال، فيحسب المرء أ نّه من غير لحم ودم، وأنّه بدأ يخفّ ويسمو ويدنو من عالَمٍ آخرَ كلّه سعادة وبهجة وعطاء.
وهنا هذه القبّة المتعالية نوراً ذهبيّاً يتوحّد فيه الجمال والجلال، فترفّ الروح حائمةً هائمة في أشواق قدسيّة تبدّل مضمون الإنسان من الداخل.
وهذه المنارات الرفيعة المضيئة الهادية، لَكأنّها تحمل معها الأرواح في رحلة عروج ملكوتيّ لا أسعد منه ولا أرغد.
والأروقة الرفيعة بجلالها ومعنويّتها، هي ذي أجواؤها الشفّافة تغمر الزائرين بحالات خاصّة من الصفاء والرواء والامتلاء، في نهاراتها المشرقة البيضاء، وفي ليالي التعبّد والدعاء.
وهنا «مَشرَبة الماء» هذه المُسبَلة عند دخول الصحن للزائرين يَرتوون منها عذباً بارداً، فيذكرون عطش كربلاء، ويسلّمون من قلوبهم على شهيد اللَّه المظلوم الإمام أبي عبد اللَّه الحسين ‏(عليه السلام).
وهذه «نافذة المُراد» المُطّلة من فضاء الصحن العتيق على أنوار الضريح المضمّخ بعطر المسك الملكوتيّ، يلوذ باللَّه أمامها الألوف من عباد اللَّه المضطرّين المكروبين؛ طلباً لكشف الضرّ وتفريج الهمّ وشفاء ما عجزت وسائل الدنيا عنه من أدواء وأمراض، فيفوز منهم بآماله من يفوز، وينهض سالماً مُعافى وسط زغاريد الفرح وانطلاق الحناجر والقلوب بالصلاة على محمّد وآل محمّد في مشهدٍ نادر تمتزج فيه الفرحة بالشوق والشكر والامتنان. وإنّه لَمنظر مدهش إذ ترى وجوه الزائرين ترتسم عليها - بلا اختيار من أصحابها - الفرحة والدهشة، والبسمة والدموع.
وهذا صوت «النقّارة» في الصحن العتيق أيضاً يرتفع قُبيل طلوع الشمس وقبيل الغروب، ليسري إيقاعُه المَهيب المُحبَّب إلى ما حوله من الأماكن والصحون، فتنجذب إليه الأسماع وترنو صوب مصدره العيون، وتجرى الصَّبايا والصِّبيان مَرِحين وقد امتلأت نفوسهم بالأمن واللذّة العميقة والإحساس بالجمال.
ويرتفع صوت الأذان في أوقات الصلاة، فيهيمن في المكان خشوع خاصّ تنبعث معه قلوب الحاضرين لتلبية النداء، وليقفوا بين يَدَي اللَّه تبارك وتعالى للصلاة في شفّافيّة وخفـّة روح. إنّ الحرم الرضويّ يبدو حينها - كما هو في واقعه دائماً - محراب تعبّد كبير مُفعَم بعطرٍ مذهل لَكأنّه ليس من عطر الأرض.
وهذه أيضاً حمائم الحرم، تحلّق مُفرِدةً أجنحتَها بين القبّة والمنارات، أو تتّخذ مَهابط لها على الشُّرُفات، أو تَحُطّ على الأرض تلقط الحَبّ بين آلاف الزائرين في أمنٍ غريب. وهي ربّما تحكي حكاية أرواح الزوّار الوَلْهى التي تُحلّق حيناً في فضاء رضويّ رحيب، أو تستريح حيناً على أرض المزار مستأنسة بهذا الهناء الذي فازت به في مشهد مولاها عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام).
إنّ كلّ شي‏ء هنا ينطق، وكلّ شي‏ء بِسرٍّ يبوح. المأدُبَة مفتوحة أبداً، والمَوائد مَلأى من كلّ الأصناف، والضيافة ضيافة رضا اللَّه الكريم.

*******
هذا الضريح المُشرَب بنور الملكوت‏

الضريح الذي نشاهده في وسط الروضة اليوم هو خامس أضرحة الحرم الرضويّ التي عُرفت في مدوّنات التاريخ. كان الضريح الأوّل - وهو خشبيّ مُلبَّس بصفائح الذهب والفضّة - قد صُنع سنة ۹٥۷ هـ، وظلّ في موضعه إلى سنة ۱۳۱۱ هـ. ثمّ تعاقبت ثلاثة أضرحة أخرى قبل أن يقام في الروضة هذا الضريح الخامس سنة ۱٤۲۱ هـ، على أرضيّة رخاميّة خضراء، ليتجلّى متناسقاً بإتقان مع معالم عمارة الروضة الزاهرة، بفنّها وألوانها وتشكيلاتها المعماريّة العريقة المتميّزة، وبما فيها من أقواس ومقرنصات ورقوش وخطوط فذّة مُعبِّرة.
صُنع هذا الضريح الرباعيّ القوائم والأركان ذو السقف المُسنَّم قليلاً، بطول ۷۸/٤ أمتار، وعرض ۷۳/۳. وهو يعلو في داخل فضاء الروضة بارتفاع ۹٦/۳. ووزنه ۱۲ طنّاً من الموادّ الداخلة في تكوينه.
وهو - من الوجهة التعبيريّة - من أجلّ الأعمال الفنيّة، ومن أوفرها دقـّّةً وجمالاً وذوقاً وأصالة فنيّة إيمانيّة، ومن أجلاها في تناسق التكوين فأنت لا تقف أمامه - وهو مركزُ معنويّة باهرة مقدّسة - بوصفه عملاً فنيّاً يستلهم التراث، بل تُقبل عليه بوصفه مظهراً فنيّاً جماليّاً مقيماً في الحاضر، وذاهباً بك إلى المستقبل.
إنّ الظواهر الفنيّة في الضريح الرضويّ ليست بمعزل عن الرؤية المعرفيّة بجمالها وجلالها المذهلَين التي تحملك على قراءة النظام الخفيّ الذي يحرّك مسار عناصره. والخلاصة المركـّزة لِما تلقاه في صنعة الضريح من عناصر تشكيليّة وزخرفيّة أنّها تؤول في حركتها المستمرّة إلى الانتهاء بالوحدة وبحقيقة التوحيد الذي هو اتّجاه إلى الإله الأحد الذي لا أوّل له ولا آخر.
يتبدّى في هذا الضريح - فيما يتبدّى من عناصره - (۱٤) محراباً رائعاً في هيئته وفي إبداعه، ويتداخل بعضها في بعض تداخلاً أصيلاً لا يقبل التجزئة والانفصال، ليكون مظهراً للوحدة التي تنتظم الكثرة. وهذه المحاريب اختير عددها بعدد المعصومين الأربعة عشر صلوات اللَّه عليهم، تعبيراً عن وحدة نورهم القدسيّ. وترتبط عقود المحاريب من فوق بقوسِ محرابٍ أصليّ كبير يحتضنها على نحوٍ مفعم بالمعاني الروحيّة والدلالات الاعتقاديّة التعبّدية. وينتهي القوس العُلوي لهذا المحراب بأقدس لفظة في الوجود تعبّر عن أقدس معنىً فيه، هي اسم «اللَّه» الجامع لكلّ حقائق الأسماء الحسنى في جمالها وجلالها وكمالها الذي لا يعرف الحدود.
ويعلو الضريحَ تاجان ذهبيّان، في الأعلى منهما كُتبت بخطٍّ رائعِ الجَودة سورة «يس»، وفي الآخر سورة «الإِنسَانِ» أو «الدَّهْرِ». وفوق التاجين كلمة «اللَّه» الذهبيّة تدور متكررة إلى ما لا نهاية مع الضريح.
وتميّز العين في لألاء الضريح كتيبات فنيّة قيّمة كُتبت عليها أسماء اللَّه الحسنى، واسم أشرف خلق اللَّه المصطفى «محمّد» (صلى الله عليه وآله)، وأسماء الأئمّة الاثني عشر من أهل بيته الطاهرين. إنّ كلّ كتيبة من هذه الكتيبات هي في الواقع آية من آيات الإبداع في فنّ الخطّ، بحيث يشعر المرء - وهو واقف أمام الضريح - أنّه يدنو من مداخل الغيب المقدّس، ويوشك أن تجذبه آفاق مطلقة إلى ما وراء حدود الزمان وأبعاد المكان.
أمّا ما في الضريح الشريف من الزخارف النباتيّة (التوريقـيّة والزهريّة) فإنّها صُمِّمَت ليكون المحور في إبداع هيئتها العددان (٥) و(۸). ولا خفاء أنّ العدد (٥) يشير إلى الخمسة أصحاب الكساء المطهَّرين بآية التطهير المباركة، وهم: محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ‏(عليهم السلام). في حين يشير العدد (۸) إلى الإمام الرضا ثامن أئمّة أهل ‏البيت ‏(عليهم السلام).
ومن ضمن هذه الزخارف، تتجلّى زهرة «دوّار الشمس» باتـّساعها وانبساطها المتميّز التي يتداعى إلى الذهن منها معنى «شمس الشموس» لقباً للإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام).
ولعلّ الهدف العميق الكامن وراء هذه الهندسة الزخرفيّة بشتّى عناصرها هو الانتقالة بنا من الصورة المرئيّة التي تقرأها عين البصر، إلى المغزى الروحيّ الحيّ الكائن وراء الحسّ والذي تتملّاه عين البصيرة. وهذا المغزى المعرفيّ الإيمانيّ المصيريّ يعني أنّ الإقبال على أهل البيت ‏(عليهم السلام) والانقطاع إليهم إنّما هو توجّه إلى اللَّه عزّ وجلّ من أبوابه التي مَنّ بها على الخلق وأمرهم بالدخول منها إليه، كما تنطق بذلك نصوص الزيارة الجامعة الكبيرة: «مَن أرادَ اللَّهَ بدأ بكم،... ومَن قَصَدَه تَوَجّه بكم».
وأخيراً، فإنّ هذا الضريح المبارك الذي استغرق تصميمه وتنفيذه حوالي سبع سنين، إنّما هو من تصميم الفنّان الشهير الأستاذ محمود فرشچيان، الذي صبّ فيه من خبراته وذوقه وجهده ورؤاه ما جعله ناطقاً - لطفاً من صاحب المزار - بالجمال والجلال والمعنى والفنّ المتّسم بالبقاء.

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة