البث المباشر

الأدعية

السبت 10 يوليو 2021 - 18:39 بتوقيت طهران
الأدعية

إذاعة طهران- الأدب الحسيني:

الدعاء - كما نعرف جميعاً-: محاورة مع الله تعالى حيث يتجه العبد الى مصدر الاشباع الوحيد للانسان في شتى حاجاته دنيوياً واخروياً، لذلك لا يمكن ان نتصور امكانية اية فاعلية غير الدعاء بمقدورها ان تحقق التوازن الداخلي للانسان مادام التوازن يتوقف على حجم الاشباع الذي يتحقق للشخص - مع ملاحظة ان الاشباع يتم على مستويات عقلية ونفسية وجسمية- ومادام الله تعالى هو مصدر الفيض للكون حينئذ فان الحاجات العقلية - وهي التقدير او التثمين الموضوعي الصرف- تظل في مقدمة المواد التي ترفد الدعاء، بصفة ان الله تعالى يتسم بسمات القدرة والابداع والهيمنة المطلقة، ثم بسمات الخير المطلق، وهذه وحدها كافية في تثمين الانسان وتقديره الموضوعي لسمات الله تعالى... لذلك فان النخبة البشرية المصطفاة يتحقق اشباعها في صعيد الحاجة العقلية، وهي: انها تعبد الله تعالى لا من اجل الثواب او اجتناب العقاب بل من اجل انه تعالى اهل للعبادة، بخلاف البشر العاديين فيما يتحقق اشباعهم من خلال الحاجات النفسية والجسمية دنيوياً واخروياً.
واياً كان، فان الامام (عليه السلام) حينما يصوغ الدعاء، فلابد ان يصوغه من جانب، وفق وعيه العبادي الذي يتمحض للحاجات العقلية، ولابد من جانب آخر ان يصوغه من اجل الآخرين حتى يمارسوا هذه الفاعلية وفقاً لمستوياتهم التي تبحث عن اشباع الحاجات النفسية والجسمية أيضاً.
لقد اثر عن الامام الحسين (عليه السلام) اكثر من نص في حقل الدعاء، الا ان هناك دعاءً معروفاً كان يتلوه يوم عرفة، حيث تميز هذا الدعاء بطوله من جانب، وبكونه قد احتشد بعناصر ايقاعية وصورية ولفظية مدهشة من جانب ثان، ولأنه تضمن دلالات متنوعة ملفتة للنظر من جانب ثالث، واليك نموذجاً منه: «الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا كصنعه صنع صانع، وهو الجواد الواسع، فطر اجناس البدائع، واتقن بحكمته الصنائع، لا تخفى عليه الطلائع، ولا تضيع عنده الودائع، جازي كل صانع، ورائش كل قانع، وراحم كل ضارع، ومنزل المنافع، والكتاب الجامع، بالنور الساطع، وهو للدعوات سامع، وللكربات دافع، وللدرجات رافع، وللجبابرة قامع».(۹)
هذا هو القسم الأول من الدعاء وقد تميز بخصيصة فكرية هي الاشادة الاجمالية بالله تعالى، مشفوعة بخصيصة فنية هي خضوع العبارات جميعاً لقافية موحدة تشبه مقطوعة شعرية موحدة القافية. لذلك ما ان انتقل الى موضوع آخر حتى تغير (القرار) الذي تنتهي اليه العبارة:
«فلا اله غيره، ولا شيء يعدله، وليس كمثله شيء... الخ». ثم انتقل الى موضوع ثالث يتصل بخلق الانسان:
«... خلقتني من التراب، ثم اسكنتني الاصلاب.. ظاعناً من صلب الى رحم، في تقادم من الايام الماضية... واسكنتني في ظلمات ثلاث بين لحم ودم وجلد... ثم اخرجتني للذي سبق لي من الهدى الى الدنيا تاماً سوياً، وحفظتني في المهد طفلاً صبياً ورزقتني من الغذاء لبناً مرياً، وعطفت علي قلوب الحواضن، وكفلتني الأمهات الرواحم.. حتى اذا استهللت ناطقاً بالكلام، واتممت علي سوابغ الانعام.. حتى اذا اكتملت فطرتي واعتدلت مرتي، أوجبت علي حجتك بأن الهمتني معرفتك...».
لنلاحظ هنا ان الامام (عليه السلام) تسلسل في عرض عملية الخلق حتى انتهى بها الى وظيفة الانسان الرئيسة في الحياة وهي: خلافة الانسان في الأرض...
بعد ذلك ينتقل النص الى عرض المعطيات التركيبية للانسان بعامة:
«وأنا أشهد يا الهي بحقيقة ايماني... وعلائق مجاري نور بصري، واسارير صفحة جبيني، وخرق مسارب نفسي... وما ضمت واطبقت عليه شفتاي، وحركات لفظ لساني، ومغرز حنك فمي وفكي، ومنابت أضراسي، ومساغ مطعمي ومشربي...».
لنلاحظ ايضاً كيف ان النص: قدم عرضاً (وصفياً) لجهاز الفم بكل تفصيلاته، وكذلك سائر الاجهزة... ثم ختمه بالحمد على هذه المعطيات ومطلق الابداع الكوني الذي طرحه في مقدمة الدعاء.
بعد ذلك اتجه الى القسم الآخر من الدعاء بعد أن انهى الرحلة عند محطة توقف خاصة، فقال:
«اللهم اجعلني اخشاك كأني اراك، واسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك... الخ».
لا نغفل ان الدعاء بدأ بقوله (عليه السلام): «الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع» وها هو الآن يربط بين قسمي الدعاء الأول والثاني مركزاً على مفهوم القضاء والقدر، مستخلصاً منه السلوك العبادي القائل: «حتى‌ لا احب تعجيل ما اخرت ولا تأخير ما عجلت» بصفة ان (الحاجات البشرية) هي المحرك الأساس للسلوك، وحينئذ حينما يشدد الامام (عليه السلام) في هذه الظاهرة ويؤكد الرضا بقضاء الله وقدره - من حيث عدم تعجيل ما اخر، وعدم تأخير ما عجل-، يكون بهذا التشدد قد بلور مفهوم الحاجات البشرية وضرورة تدريب الانسان على تأجيل شهواته والرضا بقضاء الله تعالى وقدره.. خلال ذلك يطرح الدعاء مفهومات عبادية تتناول شتى سلوك الانسان وصلة ذلك بمهمته العبادية...
وما يعنينا من ذلك كله، هو: السمات الفنية التي احتشد بها هذا الدعاء، ومنها: ما لحظناه من البناء الهندسي لقسمي الدعاء، ثم لكل قسم منهما، وارتباطه ايقاعياً بالدلالات المتنوعة فيه...
واذا تركنا العنصر (الايقاعي) واتجهنا الى العنصر (اللفظي) وجدنا جملة سمات تطبع هذا الدعاء، ومنها: عنصر (التكرار) و(التتابع) و(التقسيم) بين العبارات، من نحو:
«انت الذي مننت، انت الذي أنعمت، أنت الذي أحسنت، أنت الذي أجملت، أنت الذي أفضلت، أنت الذي أكملت، أنت الذي رزقت، انت الذي وفقت، انت الذي اعطيت، انت الذي افنيت، أنت الذي آويت، أنت الذي كفيت، أنت الذي هديت، أنت الذي عصمت، أنت الذي سترت، أنت الذي غفرت، أنت الذي مكنت، أنت الذي أعززت، أنت الذي عضدت، أنت الذي ايدت، انت الذي نصرت، أنت الذي شفيت، انت الذي عافيت، انت الذي أكرمت، تباركت وتعاليت،...».
ليس هذا فحسب، بل ان عناصر (التكرار) و(التتابع) و(التقسيم): يوازنها عنصر فني آخر هو التقابل بين الله تعالى - أنت - وبين العبد - انا - من حيث معطيات الله وقصور العبد، معطيات انت وقصور انا، فلنستمع:
«انا الذي اسات، انا الذي اخطات، انا الذي هممت، انا الذي جهلت، انا الذي غفلت، انا الذي سهوت، انا الذي اعتمدت،‌انا الذي تعمدت، انا الذي اخلفت، انا الذي نكثت، انا الذي اقررت... الخ».
ويلاحظ ان العنصر (الصور) قد اختفى من هذا النص، مقابل العنصرين اللفظي والايقاعي،... والسر في ذلك - كما نحتمل فنياً، بخاصة اننا لحظنا الامام الحسين (عليه السلام) لا يستخدم اي عنصر فني الا في سياق خاص- ان الموقف (في عرفة) وهو منبه وجداني يقترن بالخشوع والبكاء ونحوهما - يتطلب عرض المشاعر بنحو مكشوف واضح، ولكنه عميق، لذلك فان الاستعارة او التمثيل او الرمز ونحوها تتطلب نوعاً من التأمل الذي يصرف الشخص من تصعيده الروحي،.. وعوضه (عليه السلام) - كما نحتمل- بعناصر (لفظية) مثل: التكرار، التتابع، التقسيم، التماثل، التضاد... الخ، مقروناً بعناصر (ايقاعية) تساهم في التصعيد الروحي: حيث لا يكلف الايقاع ادنى تأمل بقدر ما يساهم - كما قلنا- في تصعيد العواطف التي تتطلبها امثلة هذه السياقات التي تتمحض في التوجه الى الله تعالى...
اذن: للمرة الجديدة نكرر ان الامام الحسين (عليه السلام) في ادعيته، خواطره، مقالاته، رسائله، خطبه، قد اختط منحى فنياً خاصاً هو: اخضاع العناصر الفنية (لفظياً، ايقاعياً، صورياً) الى متطلبات الموقف بالنحو الذي لحظناه في النماذج المتقدمة،... وهو امر نلحظه ايضاً في فن آخر، نختم به كلامنا عن ادب الامام الحسين (عليه السلام)، وهو:
*******

(۹) البحار، ج ۹٥، ص ۲۱٦.
*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة