هذه الخطبة تعد نموذجاً للنص الذي تتوفر فيه عناصر الفن بأرفع مستوياته.. فمن حيث الموضوع تحوم الخطبة على «فكرة» واحدة هي (قضاء حاجة الآخرين)... ومن حيث الهيكل الفني للموضوع نجد ان تلاحم اجزائه وتناميها العضوي يجسد ارفع مستويات الاحكام الفني... فالخطبة تبدأ بالحديث عن المنافسة والمسارعة في عمل الخير، مما تفصح هذه المقدمة عن أن التركيز فيها سيكون على ما هو خطير كل الخطورة، لأن المنافسة والمسارعة لا تحمل معنى الا اذا اقترنت بشيء خطير،... ثم تربط الخطبة مباشرة بين ذلك وبين قولها (ولا تحتسبوا بمعروف لم تعجلوه) مما يعني أن المنافسة ستحوم على عمل المعروف، متمثلاً في قضاء حاجات الآخرين، بدليل انها أردفت ذلك بالقول (فمهما يكن لاحد عند احد صنيعة له رأى انه لا يقوم بشكرها: فالله له بمكافأته)... ومعنى هذا ان عمل المعروف المطالب به ليس مجرد عمل الخير بل عدم توقع الجزاء الاجتماعي عليه، وهذا هو ارفع مستويات المنافسة والمسارعة،.. ثم يدخل النص في صميم الفكرة فيقول بعد أن تدرج فنياً في وصوله الى الفكرة الرئيسة: (واعلموا أن حوائج الناس اليكم من نعم الله عليكم، فلا تملوا النعم فتحور نقماً)...
اذن: وصل النص الآن الى صميم الفكرة التي يستهدفها وهي (قضاء حوائج الناس).. بعد ذلك تنمي الخطبة عضوياً هذه الأفكار الحائمة على قضاء الحوائج وتفصل الحديث عن معطياته دنيوياً واخروياً، فتقدم صورة فنية هي (الفرضية) (فلو رأيتم رجلاً.. الخ) حيث تفترض ان المعروف لو كان رجلاً لكان حسن المنظر... الخ، وتقدم بعد ذلك صوراً مباشرة عن: الجود والبخل والعفو والتواصل حيث تتجانس هذه المفردات من السلوك مع فكرة «العطاء» والايثار ونبذ الذات.. كما تقدم بعد ذلك صورة فنية جديدة هي صورة (الاستدلالية) التالية: (والأصول على مغارسها بفروعها تسمو) مستهدفة من هذه الصورة الفنية ربط قضاء حوائج الناس وعدم توقع التقدير من الآخرين: بتوقع آخر هو: الثواب الدنيوي والأخروي الذي يعده الله لأهل المعروف (ومن اراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة الى اخيه: كافأه الله بها في وقت حاجته... ومن احسن: احسن الله اليه والله يحب المحسنين) وهكذا تختم الخطبة بهذه الفقرات الاخيرة التي ضمنها مفهوما قرآنياً عن المحسنين...
اذن: جاءت هذه الخطبة محكمة كل الاحكام متلاحمة عضوياً، بحيث يرتبط كل جزء بالآخر ويتنامى كل جزء الى فكرة متطورة عن الجزء السابق: كل ذلك مضافاً الى التوكؤ على عنصر الايقاع (من جاد ساد، من بخل رذل، نافسوا في المكارم، سارعوا في المغانم) وعنصر الصورة من استعارة وفرضية واستدلال مما يجعل الخطبة نصاً فنياً له جماليته الفائقة وصياغته المحكمة الممتعة بالنحو الذي لحظناه.
وندع الخطب العامة، لنتجه الى (خطب المعركة) التي خاضها (عليه السلام) ونعني بها معركة الطف أو كربلاء، حيث فجرت هذه المناسبة عشرات الخطب التي اقترنت بها منذ بدايتها الى نهايتها، سواء أكانت للامام (عليه السلام) أم لأصحابه،... والمهم هو أن نعرض لما ورد عنه (عليه السلام) في هذه المناسبة، لملاحظتها فنياً وفكرياً.
لقد خطب (عليه السلام) في القوم الذين جاءوا لقتاله، خطباً متنوعة، يذكرهم فيها بكتبهم التي أرسلوها اليه، وبطاعة الله، وبنصرته، وبالتخلي عن قتاله،... خطبهم قبل القتال وخلاله،... الا انهم ركبوا رؤوسهم، وحينئذ القى فيهم الخطبة الآتية:
«تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا واليهن فأصرخناكم موجفين مؤدين مستعدين سللتم علينا سيفاً لنا في ايمانكم، وحششتم علينا ناراً قدحناها على عدوكم وعدونا فأصبحتم الباً على اوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم الا الحرام من الدنيا انالوكم وخسيس عيش طمعتم فيه» وجاء فيها:
«فهلا لكم الويلات اذكرهتمونا وتركتمونا، تجهزتموها والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يستحصف، ولكن أسرعتم اليها كطيرة الدبا، وتداعيتم اليها كتداعي الفراش: فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ونفثة الشيطان وعصبة الآثام ومحرفي الكتاب ومطفئي السنة وقتلة اولاد الأنبياء ومبيدي عترة الأوصياء وملحقي العهار بالنسب ومؤذي المؤمنين وصراخ ائمة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين،ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون... الخ».(۳)
هذه الخطبة تحتشد ايضاً -مثل سابقتها- بعناصر الفن المتنوعة، مضافاً الى عنصري المحاكمة والعاطفة اللتين يتطلبهما فن الخطبة، ففي القسم الأول من الخطبة: يتجسد عنصر المحاكمة او المحاججة، وفي القسم الآخر منها: يتأجج العنصر العاطفي الذي يراعي الجمهور، حيث جاءت الخطابات تترادف وتتابع بشكل مثير (يا عبيد الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب... الخ) حيث أورد اثنتي عشرة فقرة على هذا النسق: كل واحدة منها تحمل دلالة خاصة ترتبط بطبيعة التركيبة النفسية والاجتماعية للمخاطبين، فالفقرة الأخيرة مثلاً تشير على انهم (صراخ ائمة المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين) حيث وشحها بعنصر (التضمين) للأيات القرآنية الكريمة: (الذين جعلوا القرآن عضين) و(انا كفيناك المستهزئين)، مستثمراً بهذا التضمين جملة من الدلالات الفنية والاجتماعية، حيث ربط هؤلاء الذين جاءوا الى قتاله بتبعيتهم لرؤساء الشرك والضلال الذين حاربوا محمداً (صلى الله عليه وآله)، وها هم يتمثلون في احفاد أولئك المستهزئين والذين جعلوا القرآن عضين، جاءوا لمحاربة ذرية الرسول (صلى الله عليه وآله)...
وقد جسد هذه التبعية في صورة استعارة هي: صراخ ائمة المستهزئين، مشيراً بذلك الى ان هولاء الذين جاءوا لقتاله انما هم (صدى) و(صراخ) لأولئك الرؤساء المضلين،.. وهي استعارة غنية وحية تحتشد بدلالات اجتماعية ونفسية تكشف عن غوغائية هذه الشرذمة المخدوعة في تبعيتها لأئمة الضلال...
وقد احتشدت الخطبة بصور فنية مدهشة ذات اثارة ملحوظة بالنسبة الى تفجيرها العاطفي، من نحو التشبيهات: (اسرعتم اليها كطيرة الدبا) و(تداعيتم اليها كتداعي الفراش)،.. ومن نحو الاستعارات: (سللتم علينا سيفاً في ايمانكم) و(حششتم علينا ناراً قد قدحناها) و(نفثة الشيطان) و(مطفئي السنة)... بل ان الصور المباشرة (ذات الطابع الخطابي المثير) تظل ذات اثارة وتفجير ودوي يتناسب تماماً مع المناخ المتوتر الذي احاط بالمعركة وملابساتها... لنقرأ- من جديد- هذه العبارات المدوية: (تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً) (احين استصرختمونا والهين...) (فاصرخناكم موجفين، مؤدين، مستعدين) (فهلا لكم الويلات..) (والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لما يستحصف) (فسحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب)... الخ.
ان هذه الفقرات الهتافية تهدر بنحو لا يمكن للملاحظ الفني أن يفصل الحديث عنها، بل ان المتذوق الفني الصرف بمقدوره ان يلحظ مدى ما تتضمنه من دهشة فنية مثيرة كل الاثارة، سواء أكان ذلك من حيث (الايقاع الصوتي) للجمل المتتابعة، أو لفواصلها، او لتجانسها مع الدلالات (الايقاع الداخلي)... أو كان ذلك من حيث (العناصر اللفظية) مثل: التقابل والتضاد والتتابع والتماثل... الخ.
المهم، ان الخطبة تظل في النتاج الصادر عن اهل البيت (عليهم السلام) ومنهم: الامام الحسين، مصوغة بلغة خاصة تتناسب من جانب مع متطلبات الفن عموماً، ومع المناخ الاجتماعي الذي يفرض صياغات خاصة من جانب آخر...
وحين نتجه الى الأشكال الأدبية الأخرى للامام (عليه السلام)، نجد الطابع ذاته من حيث معايير الفن وصلتها بالمناسبة التي تستدعي هذا الشكل الفني أو ذاك، ومنها فن:
*******
(۳) نفس المصدر: ص ۹٤-۹٥.
*******