من هنا، كانوا يطرحون عليه الكثير من الأسئلة بهدف الاختبار والاطمئنان، ومن ناحية أُخرى، كان نفوذ المعتزلة قد ازداد في تلك الآونة، وكانت مدرسة الاعتزال قد ازدهرت، وكان الجهاز الحاكم يدعمها، وكان يوظف سلطته وإمكاناته المادية والمعنوية الأُخرى لتقوية وترويج اتجاههم الفكري، وتضعيف الاتجاهات الفكرية الأُخرى بكل وسيلة.
ونحن نعلم أن الاتجاه المعتزلي كان يفرط كثيراً في تعويله على العقل البشري القاصر والمحدود، فقد كان المعتزلة يعرضون الأحكام الدينية على عقلهم، فيقبلون ما قبله عقلهم وينكرون الباقي، وإذ كان بلوغ منصب الإمامة في حداثة السن لا يتناسب مع عقلهم المحدود بالظاهر، كانوا يطرحون أسئلة معقدة وغامضة على الإمام الجواد، ظناً منهم أنهم سيهزمونه في المنافسة العلمية؛ غير أن الإمام الجواد كان في هذه المناظرات العلمية يدحض كل شبهة تثار حول إمامته بالحجج الدامغة والساطعة، ويرسخ أصل الإمامة في ضوء علم الإمامة .
ولهذا، لم يسبب هذا الأمر مشكلة في عهد الإمام الهادي (ع)، الذي تولى هو الآخر الإمامة وهو صغير أيضاً، إذ قد اتضح للجميع أنه لا تأثير لحداثة السن في الوصول إلى هذا المنصب الإلهي.
أثارت مناظرات الإمام الجواد وكلماته ومعالجته للقضايا العلمية والفقهية الكبرى تقدير وإعجاب العلماء والباحثين الإسلاميين، شيعيهم وسنيهم، ودفعتهم إلى أن يكنوا الاحترام له ولمنزلته العلمية الراقية، فراح كل منهم يثني عليه .
وعلى سبيل المثال، هذا السبط ابن الجوزي كتب: وكان الجواد على منهاج أبيه في العلم والتقى والزهد والجود. وكتب ابن حجر الهيتمي: وكان المأمون زوجه ابنته لما رأى من فضله مع صغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة والحلم ما برز به على جميع العلماء .
وقال الشبلنجي: وكان المأمون قد شغف به، لما أظهره من الفضل والعلم وكمال العقل، مع صغر سنه وأظهر برهانه .
وقال أُستاذ الشيعة الشيخ المفيد والفتال النيشابوري حول الإمام: وكان المأمون قد شغف بأبي جعفر (ع)، لما رأى من فضله مع صغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان.
وعد الجاحظ العثماني المعتزلي الذي كان معادياً لآل علي، الإمام الجواد من العشرة الطالبيين الذين وصفهم بهذا النحو: كل واحد منهم عالم زاهد عابد شجاع جواد طاهرٌ مطهرٌ، بعض منهم خليفة، وبعض رُشح للخلافة، كل واحد منهم ابن للآخر إلى عشرة أشخاص، وهم: الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، وليس لبيت من بيوت العرب والعجم نسب مثل هذا النسب شرفاً .
العلامة الشيخ جعفر السبحاني
*من كتاب: "سيرة الأئمة (ع)".