أمَّا ارتباطهم بالله، فهو ارتباط تجريديّ لا يرون أنَّ الواقع يمكن أن يخضع له، فالإنسان يدرس مراكز القوَّة في المجتمع بين مركز سياسيّ يسيطر على الواقع السياسيّ، ومركز اجتماعيّ يملك الساحة الاجتماعيَّة، ومركز أمني يملك الساحة الأمنيَّة، وهكذا تمتدّ القضيَّة إلى المركز الاقتصادي الَّذي يشعر صاحبه بأنّه يملك أن يخضع النَّاس لما يريد، وهنا يجد النَّاس مصالحهم الآنيَّة مرتبطة بهذا المركز وبذلك، أو بهذا الشَّخص أو بذاك، ولا سيَّما إذا كان لديهم خوف من أن يكون انسحابهم من طاعة هذا أو طاعة ذاك يؤدّي إلى بعض الضَّرر في أوضاعهم أو في أمورهم العامَّة.
وهنا، ينطلق الناس ليحدّقوا بالطاعة التي تضمن لهم مصالحهم الماديّة الآنيّة، وينسون الله سبحانه وتعالى، وإذا ذكروا الله ليذكروا طاعته، فإنّهم يؤجّلونها إلى يومٍ آخر وظروف أخرى، وربّما يستسهلون معصية الله، على أساس ما يُخيّلُ إليهم من أنّ رحمة الله تتَّسع لكلِّ المعاصي، حتَّى الذي يتمرَّد على الله وفي خياله أنَّ الله يمكن أن يسامحه، وهو يبدأ العمل بمخالفة أوامره ونواهيه.
وصورة هذا الموضوع تتحرّك في خطّين:
الخطّ الأوَّل هو تحوّل هذا النهج في علاقة الإنسان بالناس الذين ترتبط مصالحه بهم مقارنة بعلاقته بالله، أنّه يتحوّل إلى إنسان يعبد النَّاس بدلاً من أن يعبد الله، وإذا فكَّر في عبادة الله، فإنّه يشرك النَّاس بعبادته، بحيث يقع في شرك الطاعة وفي شرك العبادة وفي شرك الحبّ، وهذا ما يجعله مشركاً في صورة موحِّد، لأنّ القليل من الناس الذين أشركوا بالله يعتقدون الإشراك في العقيدة، لأنّ الذين عاشوا في صدر الدَّعوة الأولى وهم مشركو قريش، كانوا يبرّرون عبادتهم للأوثان بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}[الزمر: 3].
فالمشركون موحِّدون في العقيدة، لذلك كانوا يكتبون في وثائقهم: "باسمك اللّهمّ"، وما شركهم إلّا شرك عبادة وليس شرك عقيدة، ولهذا كانت كلّ آيات القرآن التي تعالج واقع هؤلاء تركّز على أنّهم لا يملكون لهم نفعاً ولا ضرراً ولا علاقة لهم بالله من قريب أو من بعيد، لذلك يتحوَّل الإنسان إلى عابد للشَّخص، كأن تعبد صاحب المال من خلال عبادتك لماله، وصاحب السّلطة من خلال عبادتك وخضوعك لسلطته، وهكذا صاحب الجاه أو صاحب السلاح أو صاحب السياسة أو ما إلى ذلك.
والنقطة الثَّانية التي تمثّل خطراً على هذا الإنسان، هو أنّه يبتعد عن إسلامه، لأنّ قضيَّة الإسلام ليست كلمة تقولها، وليست مسألة طقوس تمارسها ولكنَّها مسألة عقل ليس فيه إلَّا الله، وقلب ليس فيه إلَّا الله، وحياة ليس فيها إلَّا الله، وعندما يكون غير الله في عقلك وفي قلبك وفي حياتك، فلستَ مسلماً بما هو معنى الإسلام، لأنَّ الإسلام هو أن تسلم أمرك لله، فلا يكون لأحد غير الله شيءٌ عندك {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة: 131]، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162 – 163]،
وهذا ما يعبّر الله عنه في بعض آياته، عندما يتحدَّث عمّن يشركون غير الله في الحبّ، ومن الطبيعي أنّ الحبّ يجذب الإنسان للخضوع، والخضوع يجذبه إلى الطاعة {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للهِ}[البقرة: 165]، فلا يحبُّون غير الله أبداً إلَّا من خلال حبّهم لله، ولذلك نحن نحبّ الأنبياء ونحبّ الأولياء ونحبّ المؤمنين، ولكن من طريق الله.
ونحن نحبّ الأنبياء لأنّهم رسل الله، ونحبّ الأولياء لأنّهم الأولياء المقرّبون لله، ونحبّ المؤمنين لأنّهم آمنوا بالله، وهذا هو معنى الحبّ في الله والبغض في الله، وهو أن لا تحبّ انطلاقاً من حالة مزاجيَّة أو من مصلحة شخصيَّة، ولكنّك تحبّ من خلال الروحيَّة الإلهيَّة التي تنفتح على الَّذين يتحرّكون في طريق الله، ويصعدون إلى رحاب الله، ويملكون القرب من الله، فتنفتح عليهم بعقلك وقلبك وحياتك كلِّها من خلال الله.
إنَّ هذا كلّه ينطلق من أنَّ الإنسان ينسى ربَّه وينسى مقام ربّه وينسى عبوديته لربّه، وينسى حجم الناس في المقارنة مع ربِّ الناس وإله النَّاس وملك الناس، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى وهو يرصد خطّ الانحراف من خلال نسيان الله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}[الحشر: 19]، ذلك أنَّك إذا نسيت الله، فإنّك تنسى ما يصلح نفسك وما يفسدها، وإذا نسيت الله، نسيت الانفتاح على النّور الّذي يشرق من خلال الله في عقلك وفي قلبك، وإذا نسيت الله، نسيت الطريق المستقيم الذي يؤدّي بك إلى الله. لذلك كلّما آمنت بالله أكثر، وكلّما تيقّنت بالله أكثر، وكلّما عرفت الله أكثر، وكلّما انفتحت على الله أكثر، استطعت أن توازن حياتك أكثر، وأن تملك حريّتك أكثر.
ولذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يعيش روحيَّة ذلك، وقد قال عليّ (ع)، وهو يصف المتّقين، وهو العارف بالمتّقين، لأنّه إمام المتّقين: "عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم" ، لأنَّ الإنسان كلّما تجلّت عظمة الله في نفسه، عند ذلك، تتصاغر كلّ القوى أمامه، وعندما يتجلّى علم الله في نفسه، فإنّه يصغر كل العلماء أمامه.
وهكذا في كلّ موقع من مواقع الصفات التي تجذبك إلى الناس، فكّر في الله أولاً، وعند ذلك تجد أنّ ما عند النَّاس في كلّ فضائلهم، إنما هو من خلال الله سبحانه وتعالى، فأنت تحمده لأنَّه هو الذي أعطى الأشياء ما يحمد به، وأعطى الناس ما يحمدونه به، فالله أعطى العالم علمه، فبعلم الله الَّذي وهبه إيّاه يحمد، وهكذا في الأشياء كلّها، وهذا ما ينبغي لنا ـــ أيّها الأحبّة ـــ أن نعيش فيه مع الله دائماً.
من كتاب "النَّدوة" ج 3
السيد محمد حسين فضل الله