ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "المَرْءُ بِهِمَّتِهِ".
هذه دُرَّة من دُرَرِ الإمام أمير المؤمنين (ع)، *"المَرْءُ بِهِمَّتِهِ"، أهدافُه، غاياتُه، طموحاتُه، كل ذلك هو الذي يُشَكِّل هويته، ويخبر عن حقيقته، صحيح أن لِكُلٍّ مِنّا هوية بيولوجية وهوية شخصية وهي الاسم الذي يطلقه آباؤنا علينا، وهوية فكرية عقدية، وهي العقيدة التي نعتقد بها، غير أن ذلك لا يكفي للتمييز بيننا وبين سوانا، لذلك لكل منا هوية أخرى تتشكل من طموحاته وما يهتَمُّ بتحقيقه من أهداف، ويهتَمُّ ببلوغه من غايات.
فأنت قارئي الكريم تساوي أهدافك وغاياتك، وأنا، وغيرنا من الناس، إذا عظُمت أهدافك وبَعُدَتْ فأنت عظيم بقدرها، وإذا دَنَتْ أهدافك وصغرت فأنت بقدرها، تلك حقيقة لا يجادل فيها عاقل.
إنك ترى بعض الناس قريبة أهدافه، وضيعة غاياته، لا غاية له إلا أن يأكل، ولا هدف له إلا أن يلبي غرائزه ويستجيب لشهواته، فهذا قيمته بقَدْرٍ ما يأكل ويشرب، وبقَدْرِ استجابته لغرائزه، يقابله شخص يذهب بعيدا في طموحاته وأمانيه وغايات، شخص، يريد أن يُغَيِّر العالم كله إلى الأفضل، يبنيه على قواعد العدل والإنصاف والأُخُوَّة، أو شخص يريد أن يحرِّر الناس من عبودية الذات والشهوات، والعبودية للطغاة والجبابرة، أو شخص يريد أن يبتكر ويخترع ويُبْدِع ويتقدم بالحياة الإنسانية ويطورها، أو شخص يطمح أن يتعرف إلى قوانين الأرض، وقوانين الخلق، أو شخص يروم الكمال المادي والمعنوي، يريد أن يبلغ أعلى مراتبه، أو شخص يريد أن يكون أقرب الخلق إلى الله وأحبهم إليه، فهذا قيمته بقدر غاياته، مكانته تحددها أهدافه.
والفرق بين الشخصَين أو الصِنفَين كبير والبَون شاسع، فمن عظُمَت هِمَّتُه كان أكثر حركة ونشاطاً وإبداعاً، ومن دَنَتْ همته كان أقرب ما يكون من الميت الذي لا يتحرك، والسبب أن الأهداف الكبرى والغايات البعيدة تدفع الإنسان إلى المزيد من العلم والعمل، والسَّعي والكَدِّ والمُثابَرة، والاستمرار والصبر والثبات، وهذه ميزات تضاف إلى الشخصية وتنَمِّيها وتزيد من قُدراتها ومَهاراتها، أما الأهداف الوضيعة فإن بلوغها يسير فهي لا تتطلّب الكثير من الجهود، وبذلك لا تُسْتَفَزُّ قابليات الإنسان ولا تتطوَّرُ مَهاراتُه، فلا يُضاف إلى شخصيته أي جديدة.
لذلك يحثُّ الإسلامُ المسلمَ على أن يكون ذا هِمَّة عالية وأهدافٍ سامية وغايات بعيدة ويدعوه إلى أن تتطلَّعَ نفسُه دائماً إلى ما هو أعلى وأسمى وأرقى، ويحذِّرُه من السكون لصغير الأمور وحقيرها، وألا يرضى بالحظوظ الخسيسة الفانية.
فعلى الصعيد الإيماني يدعوه إلى أن يبلغ بإيمانه أكملَ الإيمان، يقول الإمام زين العابدين (ع): "...وَبَلِّغْ بِإيْمَانِي أكْمَلَ الاِيْمَانِ، وَاجْعَلْ يَقِينِي أَفْضَلَ الْيَقِينِ، وَانْتَهِ بِنِيَّتِي إلَى أَحْسَنِ النِّيَّـاتِ، وَبِعَمَلِي إلى أَحْسَنِ الأَعْمَالِ".
وعلى صعيد العلاقة بالله ومعرفته والقرب منه يعلمه الإسلام ألا تكون بعدَ هِمَّته هِمَّة في هذا الشأن، فيقول: "اِلـهي هَبْ لي كَمالَ الانْقِطاعِ إِلَيْكَ، وَأنِرْ أَبْصارَ قُلُوبِنا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ، حَتّى تَخْرِقَ أَبْصارُ الْقُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلى مَعْدِنِ الْعَظَمَةِ، وَتَصيرَ أَرْواحُنا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ" وعلى الصعيد الأخلاقي يدعوه إلى أن يعمل ليبلغ القمة في الأخلاق، فيقول: "وَهَبْ لِي مَعَـالِيَ الأَخْـلاَقِ" ويقول: "أللَّهُمَّ لا تَدَعْ خَصْلَةً تُعَابُ مِنِّي إلاّ أَصْلَحْتَهَا، وَلا عَائِبَةً اُؤَنَّبُ بِهَا إلاّ حَسَّنْتَهَا، وَلاَ أُكْـرُومَـةً فِيَّ نَاقِصَةً إلاّ أَتْمَمْتَهَا". ويُعَلِّم القرآن الكريم المسلم أن يطمح ليكون سيدَ ركبِ السائرين على طريق الحق والهدى والفلاح، وينقل إليه دعاء عبادِ الرحمان، وعبادُ الرحمان هم أصحاب الهِمَمِ العالية والغايات السامية فيقول: *"... وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا"*﴿74/ الفرقان﴾.
أما على صعيد الحياة الدنيا، فيدعوه إلى بناء الحياة وتطويرها، والضَّربِ في الأرض واكتشاف ثرواتها، والتعرُّف على قوانينها وسنُنَنِها، وأن يكون صاحب هِمَّة عالية، يستفيد من حياته الاستفادة المُثلى، ويستثمر كل أوقاته في العمل والبناء والتطوير في مختلف المجالات، وأن يحاذر الكسل والخمول، والتسويف والتأجيل.
بقلم الباحث في الدراسات القرآنية / بلال وهبي