البث المباشر

أصالة الإنسانية في القرآن المجيد

الأربعاء 18 يناير 2023 - 16:29 بتوقيت طهران
أصالة الإنسانية في القرآن المجيد

لا غرو أن الحديث عن أصالة الإنسانية في القرآن المجيد هو حديث جوهري، لأن الإنسان هو محور وجوهر ومظهر عالمي التكوين والتشريع.

ولا غرو أن الحديث عن أصالة الإنسانية في القرآن المجيد هو حديث جوهري، لأن الإنسان هو محور وجوهر ومظهر عالمي التكوين والتشريع، وبما أن بعض الحاقدين على القرآن المجيد ومنذ فجر التاريخ قد حملوا القرآن المجيد شعاراً بالظاهر وهم يمارسون عملية تبشيع مفاهيمه المحبوبة والمرغوبة والجذابة عن عمد من خلال الكثير من  الجرائم التي ينسبونها وبكل أسف لمنطوق ومفهوم القرآن المجيد، فإننا أردنا الحديث عن أصالة الإنسانية في القرآن المجيد باعتبارها المحور المقدس التي لأجل رقيها وبلوغها مدارج الكمال أوجد الله المتعال عالمي التشريع والتكوين.


إن لفظ الإنسان مأخوذ إما من: 

1 - الإنس 
2 - النسيان 
3 - الظهور 

وقال في مجمع البحرين ما نصه: "الإنسان من الناس اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والواحد والجمع، واختلف في إشتقاقه مع إتفاقهم على زيادة النون الأخيرة. فقال البصريون: من الإنس، والهمزة أصلية، وزنه فعلان. وقال الكوفيون: مشتق من النسيان، فالهمزة زائدة، ووزنه أفعال على النقص والأصل أنسيان على أفعلان، ولهذا يرد إلى أصله مع التصغير فيقال أنيسيان، وقد اختلف الناس في معرفته إختلافاً كثيراً لا يكاد ينضبط.

وتم الإختلاف حول كونه جوهراً أو عرضاً أو جسماً أو روحاً، ومن الأقوال التي قيلت حول الإنسان: 

1 ـ  المزاج المعتدل 2 ـ  الحياة 3 ـ تخاطيط الأعضاء وتشكل البدن 4 ـ  الهيكل المحسوس 5 ـ الأكوان الأربعة مجتمعة أو أحد العناصر الأربعة 6 ـ  جسم لطيف داخل البدن 7 ـ  جزء لا يتجزئ في القلب 8 ـ  الروح وهو جسم مركب من نارية الاخلاط 9 - أجزاء أصلية في البدن باقية من أول العمر إلى آخره، لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان 10 - ووفقاً لقاموس إكسفورد، فإن مفهوم الإنسان يدل على التسميات القائمة على وصف الكائن البشري أو الجنس البشري 11 - ورد في قاموس كامبريدج أن مصطلح الإنسان يتم إطلاقه على مختلف الكائنات البشرية التي تعيش على الأرض، سواء كانوا رجالاً أو نساءً أو أطفالاً 12 - بعضهم قام بتعريف الانسان على أنه الرئيسيات الحاملة للثقافة، وهو يتصل بالقردة العليا تشريحياً، ولكن دماغه أكثر تطوراً، كما يتميز بقدرته على الكلام والإستدلال، ويمتلك جسداً منتصباً يحتوي على الأطراف التي تمكنه من التحرك والإنتقال 13 - لفترة ما اعتُبر الإنسان العنصر الوحيد للعائلة المعروفة بالهومينيداي أي القردة العليا (بالإنجليزية: Hominidae) 14 - بالرغم من الراي السائد ان الانسان يتميز بالعقل الذي وظيفته معرفية إلا أن "نيتشه" اعتبر أن وظيفة العقل ليست معرفية بل هي مجرد وسيلة لخدمة الغرائز، واعتبر الإنسان مجموعة من الأبعاد الغريزية وهي المكون الأساسي والمركزي للذات الإنسانية.

أما الإنسان بحسب القرآن المجيد على ما سياتي فهو مخلوق الهي مكون من بعدين مادي ومعنوي، جسدي وروحي، ويتنقل بعدة عوالم، فقد انتقل من عوالم الذرة والأصلاب والأرحام والجنينية إلى عالم الدنيا وسينتقل من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة عبر الموت والبرزخ، وهو مخلوق مكرم ومسؤول وله رسالة في الحياة ولخلقته حكمة الهية ويسعى لتحقيق الأهداف المرجوة عبر الوسائل التي تم تسخيرها له من قبل الله المتعال، وسيأتي كل هذا مفصلا  وبالعموم فإن "الانسان على ما قيل مركب من صفات بهيمية وصفات سبعية وشيطانية وربوبية، فيصدر من البهيمة الشهوة والشره والفجور، ومن السبعية الغضب والحسد والعداوة والبغضاء، ومن الشيطانية المكر والحيلة والخداع، ومن الربوبية الكبر والعز وحب المدح.

وأصول هذه الاخلاط الأربع وقد عجنت في طينة الانسان عجناً محكماً لا يكاد يتخلص منها، وإنما ينجو من ظلماتها بنور الايمان المستفاد من العقل والشرع وقال بعض الأفاضل: إعلم أيها الانسان أنك نسخة مختصرة من العالم، فيك بسائطه ومركباته ومادياته ومجرداته. بل أنت العالم الكبير بل الأكبر كما قال أمير المؤمنين عليه السلام:

"دواؤك فيك وما تشعر: وداؤك منك وما تبصر

وتزعم أنك جرم صغير: وفيك انطوى العالم الأكبر"
 
إنه ومن المعلوم ان الانسان من الناحية الظاهرية هو حيوان ناطق، وقد تميز من ناحية حقيقته عن الجمادات والمائعات والنباتات والحيوانات بان له عقلا يفكر به، ولساناً يعبر به، والقوام الانساني يسير نحو التجرد، والفارق بينه وبين القوام الملائكي الواصل إلى التجرد أن القوام الإنساني يمكنه اختصار عملية الوصول ببرهة قصيرة وقد لا يحتاج إلى كل العمر للوصول، وربما هذا هو أحد أسرار ليلة القدر، وهذا هو سر التفاوت بين إنسان وآخر، كما أن هذا هو سر التفاوت فيما بين الإنسان وبين الملائكة على سبيل المثال، ومن هنا قال جبرائيل عليه السلام للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حينما وصل وإياه  إلى السماء السابعة: ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لإحترقت. وهذا معنى الإعتقاد بأن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام هم أفضل من سائر البشر بلا أدنى ريب.

اذا تأملنا في القرآن المجيد في حديثه عن الإنسان نجد فيما نجد: 

أولاً: إن الإنسان خليفة الله المتعال على الأرض:  حيث قال الله المتعال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، وقال الله المتعال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقد ورد في بعض تضاعيف الاخبار أن الخليفة قبل الخليقة.

ثانياً: إن الإنسان هو محل التكريم الالهي: قال الله المتعال: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا }، وقال الله المتعال: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ  (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ  (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }.

فالله المتعال هنا ينبه الإنسان إلى مسألة مهمة وهي أن العلقية { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } هي أصل نشأته المادية وأن الإكرامية اي لفظ الأكرم في قوله: { اقرأ وربك الأكرم } انما بسبب التعلم والتعليم { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . فالله المتعال أكرمه لإجل النفس العالمة او المتعلمة.

ثالثاً: أن الإنسان ممن سجدت له الملائكة، فهو مسجود الملائكة كما أخبر الله المتعال عن ذلك في غير واحدة من الايات، ومنها قول الله المتعال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ }.

رابعاً: الإنسان هو ممن يصلي الله المتعال عليه، وممن تصلي الملائكة عليه، حيث قال الله المتعال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } .. وصلاة الله المتعال على عباده بمعنى الرحمة ، وصلاة الملائكة على العباد بمعنى الإستغفار.

خامساً: الإنسان هو ممن سخر الله المتعال له كل ما في السماوات وما في الارض، وفي هذا آيات كثيرة منها قول الله المتعال: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. 

سادساً : الإنسان مخلوق الهي بأحسن تقويم، وقد قال الله المتعال: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}. 

وقال الله المتعال : {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦)الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧)فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}. 

سابعاً : الإنسان هو الذي جعله الله المتعال أفضل من الكثير من خلقه تفضيلاً، فقد قال تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. وقال الله المتعال : {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . وقال الله المتعال حكاية عن يوسف عليه السلام: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}.

ثامناً: الإنسان مستدام المذكورية:  ففي بعض وجوه فهم قول الله المتعال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}  تقرر أن المراد من ذلك إنه لم يأت أي حين من أحيان الزمان وأي آن من اوان الزمان ولم يكن الانسان فيه شيئاً مذكوراً ، وإنما كان في طول وعرض وجوده ممن له الاهتمام والمذكورية ، فيصير المعنى: انه لم يأت حين من الدهر الا وكان الإنسان مذكوراً. وهذا على طريقة قول المنعم والمحسن للذي أنعم عليه وأحسن اليه: هل أتى حين من الزمان ولم تكن فيه محلاً لاحساني واهتمامي؟ أي انك طوال الاوقات كنت محلا للانعام والاحسان ولم تمر لحظة كنت فيها معدوم الانعام والاحسان.

تاسعاً: الإنسان هو حامل الأمانة الالهية، فقد قال الله المتعال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} . وهناك عدة أقوال حول المراد بالامانة منها التكاليف الالهية ومنها ولاية محمد وآل محمد عليهم الصلاة والسلام ، ومنها غير ذلك.

عاشراً: إنه مظهر الاسماء والصفات، حيث قال الله المتعال: { وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.

وهناك عدة خصائص أخرى للإنسان من قبيل أن الإنسان هو قطب رحى عالمي التكوين والتشريع، اما التكوين فلقول الله المتعال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، واما التشريع فلقول الله المتعال : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}.

وأيضاً من قبيل تشريف الله المتعال للإنسان بأنه ممن خاطبه وناداه كما في الكثير من الآيات القرآنية المشتملة على لفظة : يا أيها الناس ، ويا أيها الذين آمنوا ، ويا بني آدم وغيرها ، وايضاً من قبيل إنتخاب الحجج الإلهيين من الناس، وغير ذلك من الخصائص التي تظهر عظمة الانسان.

وأما عن سؤال، لماذا خلق الله المتعال الإنسان؟

فمن الواضح جداً وبلا أدنى ريب بأن الله المتعال خلق الانسان لحكمة وهدف وليس عبثاً كما صرح القرآن المجيد بذلك في قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، فاظهر سبحانه عدم العبثية بالمطلق في خلق الخلق، وصرح بذلك ايضاً في غير واحد من الايات، منها قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} ( وقوله : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}. 

فالمظلة العامة من خلق الإنسان كما هو صريح القرآن إنما لحكمة، وإذا سيرنا الآيات القرآنية نجد جملة من الأهداف الصريحة او كالصريحة، فقد ذكر القرآن المجيد أن الله المتعال خلق الإنسان:

أولاً: للعبادة بالمعنى الاعم من العبادة الطقسية، فقد قال الله المتعال:  {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، وبعضهم فسر العبادة بمعنى المعرفة ولا حزازة من قبول هذا الفهم لاسيما ان الرواية نطقت بذلك من جهة، ومن جهة ثانية الايات القرآنية تحدثت عن التعقل والتفكر والتدبر في الكثير من الشواهد القرآنية لاسيما عقيب الحديث عن الخلق وتعداد المخلوقات، ومن جهة ثالثة فإن العبادة لا تنفك عن المعرفة إما من ناحية اساسها، واما من ناحية التلازم وعدم الانفكاك في الاثناء، واما من ناحية الناتج الذي ينتج عنها.

ثانياً: للوصول الى مقام القرب من الله المتعال، وقد صرح القرآن المجيد بهذا حيث قال الله المتعال: { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (٧) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}،  وكرر الله المتعال لفظ المقربون مرتين في سياق الحديث عن شؤونات اهل القرب ، فقال:  {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (١٩) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (٢٦) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} ، فالكتاب المرقوم يشهده اهل القرب، والتسنيم هي عبارة عن عين يشرب بها اهل القرب، فالكتاب المرقوم والتسنيم من مختصات المقربين بصريح القرأن المجيد.

ثالثاً: مقام الاطمئنان والرضا المتبادل: أي ان العبد يصل الى مرتبة النفس المطمئنة، والنفس الراضية عن ثواب الله المتعال والمرضي عنها من قبل الله المتعال {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي} ، وذلك بعد مروره بمراتب عدة كالنفس الملهمة {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ، والنفس الناجية من أهواء ذاتها الآمرة بالسوء {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، والنفس اللوامة {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}.

رابعاً: مقام الرحمة: فقد قال الله المتعال: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، وما اعظم مقام الرحمة من مقام فهو مقام السعادة، وقد ورد في الادعية الكثير من المطالب التي تسأل الله المتعال الرحمة في الاخرة.

خامساً: مقام الفوز: فالفوز هو خاتمة منتهى السعادة، وقد ورد ذلك في غير واحدة من الايات القرآنية، منها قول الله المتعال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (٣١) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (٣٢) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (٣٣) وَكَأْسًا دِهَاقًا (٣٤) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (٣٥) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا}، وقد ورد لفظ {الفوز العظيم} في آيات عديدة، وكلمة (فزت ورب الكعبة) التي قالها أمير المؤمنين عليه السلام هي خير معبر عن عظمة حقيقة الفوز الذي يسعى الانسان الى تحصيله.

سادساً: الاحسن عملاً: ومن الاهداف المهمة لخلق الانسان من قبل الله المتعال هو النجاح في الامتحان الالهي الذي هو بحقيقته تكامل لبلوغ علو الدرجات، فقد قال الله المتعال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، وقال الله المتعال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}، وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. ويظهر ان هذا الهدف وبعض الاهداف الاخرى هي من الاهداف المقدماتية وتليها اهداف وسطى واهداف عليا، والله العالم بحقائق الامور.

سابعاً : مقام اللقاء: ويدل عليه قول الله المتعال: { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} ، والعبرة في اللقاء الاختياري لا القهري الإضطراري، ذاك اللقاء بوجه نوراني ابيض.

ثامناً: مقام الإستئثار والإصطناع الإلهي: قال الله المتعال حكاية عن موسى عليه السلام :{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}.

وهناك عدة أهداف أخرى من قبيل الكمال وأعلى مراتب الدنو وغيرهما.

النقطة الثانية: النفس تتسنم القيادة: فالنفس قائد مطلق للبدن بالطبيعة ودون أي تكلف، وقد تكون النفس قائداً لغير البدن لكن لا بالطبيعة بل بالتكلف والمجاهدة.

وعلى هذا فللنفس قيادتان:

الأولى: من حيث الطبيعة وهي قيادة البدن.
الثانية: من حيث التكلف والجهد وهي قيادة الأنفس الأخرى.

فأن تقود بدنك، فلا تحتاج إلى توفر صفات خاصة، ومكانة إجتماعية، ومركز وجاهي، ومال وفير، لكن إذا أردت قيادة غيرك من الناس فتحتاج إلى كل هذا أو بعضه، وكما أن هذه النفس تتصف بالقيادة تكويناً واعتباراً، وهي مقودة لغيرها كذلك والإنسان بالخيار في ذلك فإما يكون منقاداً للَّه عزَّ وجلَّ وإما للشيطان.

والملاحظ أن النفس التي تتسنم القيادة هنا مصنفة بإحدى الأصناف الخمسة المذكورة أعلاه. وعلى هذا فإذا كانت هذه النفس خيّرة فإنها سوف تكون:

1  مقودة للقيادة الإلهية.
2  قائدة للبدن تبعاً للقيادة الإلهية.
3  والبدن هو منقادٌ في طول القيادة الإلهية، وكذا الناس هم منقادون في طول القيادة الإلهية. أما إذا كانت هذه النفس ضالة فإنها سوف تكون:
1  مقودة للقيادة الشيطانية.
2  قائدة للبدن تبعاً للقيادة الشيطانية.
3  والبدن والناس منقادون في طول القيادة الشيطانية.

ومن هذه الحيثيات ندرك نوعية العلاقة مع النفس حيث على الإنسان أن يعمل على أن تكون هذه النفس منقادة للَّه عزَّ وجلَّ وقائدة للغير نفساً أو أناساً على ضوء انقيادها للَّه عزَّ وجلَّ، وإلا سوف تكون منقادة للشيطان وقائدة للغير على ضوء انقيادها للشيطان.

أما مع تأرجح النفس فلابد من العمل الدؤوب والمضني بغية الانقياد التام للَّه عزَّ وجلَّ. أما الوسيلة المساعدة على الانقياد للَّه عزَّ وجلَّ فهي ظاهر الشريعة الإسلامية بشرط احرازها من مظانها إجمالاً وتفصيلاً.

إن من المهم جداً الانقياد التام للَّه عزَّ وجلَّ انقياداً وقيادةً دون التبعيض وإلا لزم التأرجح وعند التأرجح لا يؤمن السقوط، ولا يضمن النجاح والارتفاع.

النقطة الثالثة: النفس تركن إلى المحسوسات: ثمة وجود للغيبيات وهي التي لا تُحسّ ولا تجسّ ولا ترى، وثمة وجود للمحسوسات وبالرغم من أن النفس الإنسانية تمثل البعد المعنوي غير المحسوس للإنسان إلا أن معايشتها للبدن المحسوس يجعلها قريبة من المحسوسات ومطمئنة لها أكثر من الغيبيات.

وركونها للغيبيات إنما يتأتى من خلال حضور عاملين اثنين هما:

العامل الأول: اليأس من المحسوسات.
العامل الثاني: المجاهدة الرفيعة المستوى.

ومع هذين العاملين لا يكون انصباب هذه النفس كلياً على المحسوسات بل يعتدل توجهها في إطار السكة التالية:

أولاً: تنظر إلى المحسوسات نظرة كونها تحافظ على البقاء في إطار الأمد المكتوب.
ثانياً: تركن إلى المحسوسات باعتبار كونها وسيلة لتحقيق كمال النفس الإنسانية وارتفاعها. ومما تقدم تظهر ماهية العلاقة مع النفس من هذه الجهة حيث لا بدية ربطها بالغيبيات والمعنويات بالتدرج والمجاهدة مع استخدام المحسوسات لهذا الهدف.

النقطة الرابعة: النفس تميل مع ريح الراحة: الإنسان بطبعه إذا ما عُرض عليه أمران أحدهما فيه راحة والآخر فيه مجهدة اختار الأول دون الثاني بالبداهة.

ولكنه ومع إجالة النظر والتدقيق قد يرى الأمر الذي فيه راحة ليس لصالحه والأمر الذي فيه مشقة في صالحه فيختار ما يكون في صالحه حتى لو كان فيه مجهدة.

وهذا يتم إذا كان الصلاح واضحاً لديه ومحسوساً في الدنيا أما إذا كان الصلاح أمراً مخبراً عنه بطريق غيبي ولكنه يتحسسه فهنا يقع الكلام ويتجه السؤال.

فإذا كانت هذه النفس ممن تلاحظ:

أولاً: الأمر الإلهي المتعلق بالأشياء الباعثة على الراحة أو على المشقة النسبية.
ثانياً: عواقب الأمور والسعادة الدائمة لا اللذة الآنية المحرمة.
ثالثاً: القدرة على إرسال النفس حيث ينبغي إرسالها، والقدرة على إمساك النفس حيث ينبغي امساكها.
رابعاً: الواقعيات دون الزخارف والزينة والأوهام.

فإن هذه النفس لن تميل مع الراحة في ما لو استبطنت شقاءً دائماً، وتميل إلى المجهدة فيما لو تحصّل منها سعادة دائمة.

نعم لا بأس بالراحة في مظان الحلال وإن كان ينبغي عدم الانسياق الكلي وراء ذلك.

وينبغي الإشارة إلى أن العلاقة مع النفس الإنسانية مضافاً إلى ما مر لا بد وأن تتم بالمجالات الآتية:

المجال الأول: تسرية المنظومة العقائدية الصحيحة على ميدان النفس ذاتاً وممارسةً.
المجال الثاني: إخضاع النفس وفق ما ترتئيه المنظومة الأخلاقية المتماسكة.
المجال الثالث: إخضاع النفس لظاهر الشريعة الإسلامية.

بقلم الباحث بالدراسات القرآنية الشيخ توفيق حسن علوية

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة