و رُوِيَ عن الإمام علِيَّ ـ عليه السلام ـ أنه قال: "الْدُّنْيا بِالاتّفاقِ، الآخِرَةُ بِالاسْتِحْقاقِ".
بهذه الجوهرة يجيب الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على سؤال يراود الكثير منا ومفاده: لماذا نجد بعض الكفار الجاحدين، وبعض الطغاة الظالمين، وبعض الفاسدين السارقين يرفلون بأثوابٍ من النعم والخيرات، لماذا نجد بعض الحمقى والجاهلين والأميين الذين لم يُحسنوا شيئاً من العلم الأكاديمي، أثرياء يملكون أموالاً طائلة؟ في المقابل نجد بعض المؤمنين الطيبين الخلوقين الصالحين فقراء لا يملكون نقيراً، لماذا نجد الكثير من العباقرة والفلاسفة والمبدعين والأذكياء لا قد لا يجدون قوت يومهم، أو دواء لدائهم، أو بيتاً يُكِنُّهم، أو وسيلة تُقِلُّهم؟
وقد يذهب البعض أبعد من طرح السؤال، حين لا يجد له جواباً إلى التشكيك في عقيدته بالله تعالى، إذ يعتقد أن المؤمن الصالح العابد هو الذي يستحق النِّعَمَ والخيرات لا الكافر الفاجر، وأن العالم المفكر هو الأجدر بها دون الأحمق والجاهل.
الإمام ـ عليه السلام ـ يجيب على هذا السؤال بقوله: "الْدُّنْيا بِالاتّفاقِ..." أي أن الحصول على الرزق والخيرات والثروات في الدنيا لا يقتصر على من يستحق ذلك، لا يقتصر على المؤمن دون سواه، ولا على الصالح دون الفاسد، الدنيا ينال منها كل أهلها بأسباب مختلفة، والله لا يمنعها عن أحد منهم حتى وإن كان أشد الناس كفراً وجحوداً وظلماً، الدنيا دار ابتلاء واختبار، والله يعطي هؤلاء وهؤلاء يبتليهم بما يعطيهم ويختبرهم ويحتجَّ بذلك عليهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: "كُلًّا نُمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا"﴿20/ الإسراء﴾ إن الله يعطيهم جميعاً، وعطاء الله لا يحظره أحد و لا يمنعه أحد، والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم و أسبابهم و اتجاهاتهم و أعمالهم.
وبكلمة أخرى: ليس كل من ينال شيئاً في الدنيا فهو مستحق لذلك الشيء، فقد يتفق أن يموت المؤمن الصالح الغني فيرثه الفاسق الفاجر من غير استحقاق ولكن بسبب بُنُوَّتِه له، والآخر لم يرث شيئاً، أو أن ينال أحدهم شيئاً بسبب هدية تعطى له، أو بسبب أن الفاسق الفاجر يتاجر ويعمل والمؤمن لا يتاجر ولا يعمل، أو بسبب ظروف معيشية استدعت أن يكون لهذا أكثر من ذاك، فتلك الاختلافات نتجت من هذه الأمور ولم يكن سببها أن الله تعالى أعطى الأول ما يستحق ومنع عن الثاني ما يستحق، فلو كان ذلك لكان ظلماً والله تعالى هو العدل ولا يكون منه إلا العدل، فمن يك مستحقاً لشيء فلا بد أن يناله.
إن الحياة الإجتماعية تقتضي أن يتنوع حال الناس فيها، فيعطي هذا شيئ، ويعطى ذاك شيء آخر، كي يحتاج كل منهما إلى الآخر، ويتكامل كل منهما مع الثاني والثالث والرابع، وهذا العطاء ليس على قاعدة الاستحقاق حتى يُقال: إنَّ الأكثر ثراء أكثر قيمة أو منزلة عند الله تعالى، أو أنه أجدر بذلك من غيره، وأن الأقل ثراء أقل قيمة ومرتبة عند الله، فقد يكون الأكثر فقراً أعلى مقاماً عند الله وأقرب الناس إليه.
هذا في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر مختلف تماماً فإنها أي الآخرة لا ينال المرء فيها شيئاً إلا إذا كان مستحقاً لذلك كما قال تعالى: "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿7﴾ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ"﴿8/ الزلزلة﴾. وقال تعالى: "وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ"﴿75/ طه﴾.
بقلم الباحث في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي