نتكلم عن المقارنة بين الرؤيتين الرؤية النفسية في تحليل حقيقة الوحي، والرؤية الدينية في تحليل حقيقة الوحي، ولذلك عندنا محاور ثلاثة:
المحور الأول: هل أن النبي في عملية الوحي له دور محوري؟
هل أن النبي في عملية الوحي له دور محوري فهو فاعل وصانع، أم هو مجرد أداة لاستيعاب ما يلقى عليه كآلة التسجيل التي تلتقط الصوت من دون أن يكون لها دور محوري في عملية استيعاب المضمون؟
هنا كما تحدثنا سابقا عن نظرية التجربة الروحية وأن الوحي مجرد تجربة إنسانية يمارسها النبي أو الرسول، وهذه التجربة تفضي إلى أن يقتنص النبي أو الرسول مجموعة من التعاليم والمفاهيم ثم هو بدوره يقوم بإلقائها للمجتمع البشري، فمن أجل معرفة بنود هذه النظرية نذكر عدة بنود لهذه النظرية لتتضح بها معالمها:
البند الأول
أن الوحي تجربة يخوضها الشعراء والعرفاء وإن كان النبي يخوضها بدرجة أعلى؛ أي نفس العملية هي سنخ العملية التي يخوضها الشاعر والعارف، يخوضها النبي ولكن بدرجة أرقى وأعلى.
البندالثاني
الوحي أداة معرفية تختلف في وظيفتها عن العلم والفلسفة، ولكن ما هو الفرق بين الشاعر والعالم والفيلسوف حتى نميز بين العملية التي يخوضها العالم والعملية التي يخوضها الفيلسوف والعملية التي يخوضها الشاعر؟ نأتي إلى مسألة حقيقة الظلم، العلم هو إدراك محض أي أن العلم لا يصنع وإنما يستقبل كأن يعلم الإنسان أن الظلم أمر قبيح، حقيقة يستقبلها بعلمه ويستقبلها بعقله، وهذا الاستقبال يسمى علم، علم الإنسان أن الظلم قبيح.
والفلسفة هي عبارة عن التحليل وصل إليه أن الظلم قبيح، فيأتي دور الفيلسوف ليقوم بتحليل هذه القضية، ما معنى الظلم؟ الظلم هو سلب كل ذي حق حقه، كيف يتكون الحق وعلى إثره يترتب العدالة والظلم؟ ما معنى قبيح؟ قبح عقلي، قبح وجداني… تحليل القضية يسمى بفلسفة.
أما الشعر أو العملية الشعرية التي يمارسها الشاعر في هذا المجال فهي أداة تختلف عن العلم والفلسفة باعتبار أن الشاعر مثلاً في المقام يقوم ويصنع صياغة وصورة لم تصدر من الفيلسوف ولا من العالم من أجل أن يؤثر على النفوس فيقول مثلاً كما قال المتنبي: «الظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد. ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ»، فهو يصنع مفهوماً من أجل التأثير على الآخرين، على عقولهم وقلوبهم، فالعملية الشعرية هي عملية صنع وإبداع، لذلك تختلف عن العلم الذي هو مجرد استقبال للمعلومة، وتختلف عن الفلسفة التي هي تحليل للمعلومة الوافدة.
هؤلاء يرون أن الوحي من سنخ الشعر، أي أن النبي يصنع مفاهيم ومفردات من أجل التأثير على من حوله من الناس.
البند االثالث
الدور المحوري للنبي في عملية الوحي، مطلب يذكره العرفاء أن كل نفس بشرية هي إلهية؛ بمعنى أن كل نفس بشرية هي مرآة لله، هي نفخة من الله عز وجل، كل نفس بشرية هي نور إلهي، والله تبارك وتعالى تجلى في كل نفس بشرية ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ [النور: 35] إنما فرق بين النبي وغيره، أن النبي اكتشف ذلك، اكتشف أن نفسه مرآة لله، اكتشف أن نفسه نفخة لله تبارك وتعالى أي اكتشف العنصر الإلهي في النفس، بينما بقية العباد غافلون ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179] غافل عن حقيقة نفسه وأنه مرآة لله عزوجل.
ولذلك ورد في الحديث النبوي الشريف: ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“ فالنبي لما أدرك أن النفس إلهية أراد أن يخرج النور الإلهي من القوة إلى الفعل، أن يجعله شيئاً مجسداً وممتثلاً لا شيئاً كامناً خاملاً، فالوحي عبارة عن استثارة؛ أي أن النبي يريد أن يستثير هذا العنصر الإلهي الموجود في داخل نفسه ليحوله إلى معاني ومفاهيم وأفكار، نظير ما يقوم به الشاعر من تحويل هذه المفردات الخيالية التي عنده إلى رسم وصورة إبداعية.
ولذلك يقول هؤلاء أصحاب هذه النظرية، هناك اتحاد بين النور الإلهي وبين النفس البشرية، النور الإلهي ساطع في النفس، وما على الإنسان إلا أن يبلور هذا النور الساطع ويحوله إلى مضامين ومعاني وأفكار، وإلا كل نفس فيها نور ساطع من الله تبارك وتعالى.
نظير إفاضة الماء، ماء من النهر يفيض على المجاري والكؤوس والأوعية، وكل وعاء يأخذ من الماء بقدر حدوده ونصيبه، لدي نور إلهي ولكن اكتشف هذا النور بقدري، الولي عنده نور إلهي لكن يكتشف هذا النور بقدر طاقته، النبي أوسع طاقة فيكتشف من النور الإلهي ما هو أوسع حدوداً مما يكتشفه غيره.
بالنتيجة أن النبي خالق للوحي لأنه يستخرج النور ويحوله إلى مضامين وأفكار ومفاهيم بخلاف بقية البشر الغافلين النائمين عن النور، فهو خالق للوحي بهذا المعنى ولكن حيث أن الناس لا يدرك ما أدركه النبي فهو مضطر أن يعبّر عن ما يعيشه بألفاظ معينة وبآيات معينة حتى يفهم الجميع ما يعيشه النبي المتلقي للوحي.
وبتعبير فلسفي حول الدور المحوري للنبي الأكرم: العلة المادية من الله والعلة الصورية من النبي، إذن الوحي هو مادة موجودة في النفس استثارها النبي وصاغها وحولها إلى قوالب لفظية ومعاني ومفردات وأنبأها المجتمع البشري.
البند الرابع
هل الوحي معصوم؟ إذا كان الوحي هو عملية شعرية أدبية يقوم بها النبي هل هي عملية معصومة مضمونة؟ يقولون جزء وجزء، هناك مفاهيم غيبية، الله، صفات الله، الحياة بعد الموت، مضامين العبادة هذه مفاهيم غيبية لا يخطئ فيها النبي يصوغها كما هي، وهناك مفاهيم أرضية تتعلق بعالم الأرض، إذا قرأنا القرآن نجد فيه قوانين للمعاملات، وفيه قانون القصاص، أحل البيع حرم الربا، ذكر الإرث، ذكر الدين…. قوانين ذكرها القرآن الكريم.
هذه القوانين التي ذكرها هي مفاهيم أرضية وليست مفاهيم غيبية، يقولون في هذه المفاهيم لا يكون معصوماً، هو معصوم في المفاهيم الغيبية التي لا يصل إليها الذهن البشري، أما في هذه المفاهيم الأرضية التي هي عبارة عن تدبير المجتمع الأرضي وإدارته فمن الممكن أن يكون هناك قصور أو خطأ.
ولذلك يقول الدكتور عبد الكريم سروش: لا أتصور أن علمه بالأرض والكون وتكوين الإنسان أكثر من المعاصرين له في حياته، فإن العلم الذي وصل إليه الإنسان حالياً لم يكن للنبي علم به وهذا لا يؤثر على النبوة سلباً، فهو نبي ليس فيزيائي ولا عالم أحياء ولا فلكي حتى يعلم المعلومات التي وصل إليها العلم الآن، هو نبي بمعنى أنه خاض هذه العملية الروحية وأبلغ مفاهيم معينة، فأصاب في البعض وكانت قاصرة في البعض الآخر.
البند الخامس
خضوع القرآن الكريم للانفعالات، فإذا قلنا أن الوحي هي عملية إنسانية يخوضها النبي إذن ستتأثر عملية الوحي بانفعالات النبي، إذن تتأثر عملية الوحي بالانفعالات الإنسانية التي يمر بها النبي.
ولذلك يقول الشاعر الفارسي مولوي: القرآن مرآة لقلب النبي. ومعنى ذلك أن حالات النبي المتغيرة وأوقاته السعيدة والعصبية تنعكس في القرآن بل إن ابن مولوي ذهب إلى أن تعدد الزوجات إنما أُجيز في القرآن الكريم ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3] لأن النبي كان يحب النساء؛ أي أن هذه الرغبة وهذا الميل الغريزي انعكس أيضاً على صياغته للوحي فصدرت منه هذه المفاهيم.
إذن هذا يعني أن الوحي عنصر إلهي من جهة، وعنصر بشري من جهة، فلذلك يتأثر بالانفعالات البشرية.
البند السادس
بشرية القرآن، القرآن فيه جانب إلهي وفيه جانب بشري ﴿إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ [فصلت: 6] وعليه فإن القرآن فيه عناصر ذاتية وفيه عناصر عرضية، عناصر ذاتية تحدث القرآن عن التوحيد والعدالة والقيم الخلقية.
هذه عناصر ذاتية من الله، وفيه عناصر عرضية مثل أحكام الرق، أحكام الحج، كفارة الإفطار، فهذه عناصر عرضية بمعنى أنها خاضعة للتغير والتبدل جاء بها النبي لإصلاح زمانه، ولا يعني أنها قوانين ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وهذا ما يصدق على العقوبات الجسدية المذكورة في القرآن أيضاً كعقوبة الزنا، عقوبة السرقة، عقوبة القصاص، كل هذه العقوبات جاء بها النبي محاكاة لثقافة زمانه وإلا فهي قابلة للتغير والتبدل.
هذا شرح واضح لعملية الوحي بنظر هؤلاء الذين يرون الوحي عملية شعرية أدبية عرفانية يخوضها النبي ويكون دوره دوراً محورياً فيها كما يخوض الشاعر أي عملية أدبية من هذا القبيل.
المحور الثاني: عرض الرؤية الدينية في تحليل حقيقة الوحي
حتى نفهم عندما يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ «51»﴾ [الشورى: 51]
وشرح كلمة ﴿وَحْيًا﴾ قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ «52»﴾ [الشورى: 52] ومعنى ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ نتعرض إلى هذه الحقيقة القرآنية ببيان عدة نقاط فيها:
النقطة الأولى: معلومة منطقية فلسفية يُعبَّر عنها بمراحل الوجود، فعندنا الوجود الحسي، والوجود المثالي، والوجود العقلي.
المرحلة الأولى: الوجود الحسي هو وجود المادة الأجسام، ألوانها، روائحها حجمها… إلخ.
المرحلة الثانية: عالم الوجود المثالي؛ أي الصور، عالم الوجود المثالي هو عبارة عن إدراك الصور مثلاً أمامي صورة التفاحة ثم ذهبت هذه الصورة، ولكن صورتها انطبعت في ذهني وبقيت، هذه الصورة التي بقيت في الذهن بعد غياب الجرم ذهبت إلى وعاء الخيال، فالخيال قوة أخرى التقطت هذه الصورة واحتفظت بها فبقيت هذه الصورة، ولذلك القوة المتخيلة تصنع من الصورة أشياء وتتصرف في الصور الموجودة في عالم الخيال، هذه الصورة ليس لها مادة وليس لها لون وليس لها جرم ولا رائحة مثل الصور التي تنعكس على الورق تماماً.
المرحلة الثالثة: ألا وهي مرحلة الموجودات العقلية وهي إدراك المفاهيم الكبرى الكلية، الظلم قبيح، الله عادل، الإنسان حر مختار، كل هذه مفاهيم كبروية عامة، وهي ليست في الحس ولا في الخيال وإنما هي مدركات عقلية تحليلية، يعبر عنها القرآن باللب، العقل، القلب… إلخ
النقطة الثانية: العلم نوعان كسبي وكشفي، العلم الكسبي دور الإنسان فيه دور إعدادي، فمثلاً لديك مسألة رياضية فيقوم الذهن بحركة سريعة بين المعلومات والتدقيق والتحليل إلى أن تصل إلى النتيجة، هذه العملية التي يقوم بها الذهن هي عملية إعدادية؛ أي تعد الذهن للوصول إلى النتيجة، هذه العملية الإعدادية تسمى بالعلم الكسبي، أنت اكتسبت معلومة لم تكن موجودة عندك.
بينما العلم الكشفي يعتمد على الحدس وليس على العقل، والناس مختلفين في قوة الحدس، فما يصل إليه الإنسان بالحدس هو علم كشفي وليس علماً كسبياً فهو لم يقم بأي عملية لا عملية تفكير ولا عملية إعداد ولا عملية تحليل، مجرد أن النفس جاءتها صورة معينة فتشبثت بها، وبعدها هذه الصورة طابقت الواقع، وهذا يسمى بالعلم الكشفي.
في عالم العلوم التي نحن نقوم بدراستها كلها تكون من قبيل العلم الكسبي لأن عقولنا تقوم بعملية إعدادية للوصول إلى نتائج هذه المعلومات.
النقطة الثالثة: ما هي الفوارق بين العلم الكسبي والعلم الكشفي؟ عندنا عدة فوارق مهمة: الفارق الأول: قوس النزول وقوس الصعود.
العلم الكسبي يعتمد على قوس الصعود، والعلم الكشفي يعتمد على قوس النزول، ولبيان هذه النقطة نقول مثلاً يجلس إنسان مع امرأة هي زوجته، من خلال العلاقة مع زوجته تصبح لديه صورة حسية، هذه امرأة لها صفات معينة هذه الصفات تعني أنها زوجتي، ثم يتطور قوس صعود من الصور التي جاءته عن طريق الإحساس بزوجته إلى صور غرامية يفكر فيها، إذا غابت عنه مدة طويلة يستذكر صورها وذكرياتها ويقوم بمناجاة تلك الصور وما أشبه ذلك.
هو بذلك انتقل من درجة إلى أخرى، انتقل من درجة الحس إلى درجة الخيال والخيال أرقى من الحس، ثم يأتي هذا الإنسان ويقول من هذه الصور التي في ذهني سوف أُسس مفاهيم ومفردات عن السعادة الزوجية وضرورة الحب بين الزوجين وعن قيمة العلاقة بين الزوجين، فينتزع من الصور الخيالية مفاهيم كلية، ومفردات أخلاقية.
وهذا كله يسمى قوس صعود، انتقل من الحس إلى الخيال إلى المعلومات العقلية، العلم الكسبي دائما دوره قوس الصعود، يصعد من الأدنى إلى الأعلى.
أما عندما نأتي إلى العلم الكشفي الذي يعيش قوس نزول، يعني هذا الذي يعيش العلم الكشفي ولنفترضه مثلاً النبي عن طريق الوحي، هذا الذي يعيش العلم الكشفي هو يدرك أولاً المعلومة الكلية ثم يدركها في عالم الخيال ثم يدركها في عالم الحس، فهو يعيش مع المعلومة قوس النزول لا قوس الصعود.
أي مثلاً النبي يتلقى بقلبه ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ «192» نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195»﴾ [الشعراء: 192 – 195] فالنبي تلقى بقلبه هذه الصورة الكلية وهي أن حقيقة الصلاة هي حقيقة الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، ثم تحول إلى صورة في خياله، ثم هذه الصورة التي انتقشت وارتسمت في ذهنه وفي خياله جاءت معها العبارة الحسية والقالب اللفظي ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: 45].
فإذن ما عاشه النبي في مسألة العلم الكشفي المعبر عنه بالوحي من قبيل قوس النزول، المعنى الكلي، فصورته، فالعبارة المناسبة له والمنسجمة معه.
ولذلك يقول في القرآن الكريم: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «77» فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ «78»﴾ [الواقعة: 77 – 78]، ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 4] ثم يقول: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3] من ذلك العالم كان عليٌ حكيم، وكان في أم الكتاب، ونحن مارسنا قوس النزول معك ونقلنا هذا المعنى من المفاهيم الكلية إلى صورة ذهنية إلى لفظ عربي.
النقطة الرابعة: في العلم الكسبي توجد اثنينية ولذلك يمكن أن يخطئ ويمكن أن يصيب، بينما في العلم الكشفي ليس فيه اثنينية هو هو، ولشرح هذا المعنى أقول الآن أنا أتلقى معلومة وهذه المعلومة لا تأتي بنفسها وإنما تأتي صورتها إلى ذهني، لو قيل لك مثلاً أن المسافة بين الشمس والأرض كذا، تأتي صورة المسافة إلى عقلك، إذن هناك اثنينية، فالمسافة شي وصورتها شيء آخر، ونتيجة الإثنينية يمكن للصورة أن تطابق ويمكن أن تخطئ، متى ما كان بين العلم والمعلوم اثنينية جاء الخطأ والصواب ولذلك يسمى علم حصولي، ولكن متى ما كان العلم هو نفس المعلوم ليس بينهما اثنينية يستحيل الخطأ ولذلك يسمى علم حضوري.
علمك بالمسافة بين الشمس والأرض غير علمك بالصورة نفسها، المسافة لم تحضر بل حضرت صورتها لذلك صار العلم حصولي، لكن صورتها هل حضرت بصورة ثانية أو حضرت بنفسها، الصورة حاضرة بنفسها لا بصورة أخرى، فعلمك بالصورة علم حضوري أي أن العلم عين المعلوم، بين الصورة والمسافة يوجد اثنينية، لكن بين الصورة ونفسها لا يوجد اثنينية ولا معنى لأن تقول أنا مخطئ، العلم بالصورة علم حضوري بخلاف العلم بالمسافة الخارجية علم حصولي، العلم الحصولي هو الذي يمكن أن يخطئ، أما العلم الحضوري يستحيل أن يخطئ.
الوحي من قبيل العلم الحضوري لا من قبيل العلم الحصولي، المعاني بنفسها هي في قلب النبي لا أن صورها في قلب النبي، هي بنفسها في قلب النبي لذلك علمه بها علم حضوري ولا اثنينية هنا حتى يمكن أن نقول يمكن أن يخطئ ويمكن أن يصيب.
ولذلك الذي يتلقى العلم الكسبي هو العقل الذي يعبر عنه القرآن باللب ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 18] بينما العلم الكشفي موطنه القلب وليس العقل ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194»﴾ [الشعراء: 193 – 194] ومن قلبه لا يستقبل العلم الكشفي فهو أعمى ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]
النقطة الخامسة: إن الدور المحوري للنبي في قبول الوحي، يقول الدكتور عبد الكريم سروش عملية الوحي جعلتموها عملية ميتة جامدة النبي فيها مجرد مستقبل، بينما نحن الذي نقول بأن الوحي هو تجربة إنسانية بشرية نجعل للنبي دور حيوي يصنع صورة يعبر عنها بألفاظ ومفاهيم، نحن نجعل الوحي عملية حيوية يسهم فيها النبي بإبداعه، أنتم تجعلون الوحي عملية ميتة ودور النبي فيها دور الجهاز المستقبل، وهذا كلام غير صحيح، نحن أيضاً الذين نقول أن المفيض للوحي هو الله، يفيض نوراً مباشراً لقلب النبي بلا واسطة، وهذا الذي يفيضه الله تبارك وتعالى على قلب النبي بلا واسطة وهذا النور هو الوحي وهو الروح ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: 52] وعندما يصل لقلب النبي فهناك دور محوري للنبي وهو التفاعل مع هذا النور قلباً وعقلاً ولساناً، يتفاعل معه قلباً حيث يكتنز ويختزن هذا النور، ويتفاعل معه عقلاً تتولد لهذا النور صور في عقله، ويتفاعل معه لساناً ولغة عندما ينطق بهذا الوحي وينطق بهذه المفردات.
قاعدة نذكرها ونربطها بالبحث: ربما سمعتم هذه القاعدة الفلسفية «كل حادث فهو مسبوق بمادة ومدة» الوحي حادثٌ؛ شيء أحدثه الله والقرآن الكريم يقول ذلك: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: 2] فكل حادث مسبوق بمادة ومدة، أي مستحيل يحصل شيء في عالم الطبيعة بدون زمن وبدون مادة، إذن الوحي مسبوق بمادة ومدة، إذن فيه عنصر مادي، عنصر بشري.
الجواب عن ذلك:
«كل حادث مسبوق بمادة ومدة» هذا في الحوادث المادية، والحوادث على قسمين: حوادث في عالم المجردات عن المادة، وحوادث في عالم الطبيعة، الحادث في عالم الطبيعة يكون مسبوق بمادة ومدة، أما الحادث في عالم المجردات فهو ليس مسبوقاً بمادة ومدة، وبعبارة أخرى كما يقولون هناك عالم خلق، وهناك عالم أمر، عالم الخلق هو عالم الطبيعة، لا يحصل شيء في عالم الطبيعة بدون مدة ولا مادة، ولكن عالم الأمر ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54] هو عالم مجرد عن المادة والمدة، الوحي علاقة مباشرة بين الموحي وهو الله وبين قلب النبي وهذان كلاهما ليس شيئاً مادياً فالعلاقة التي بينهما ليست علاقة مادية والنور المفاض ليس نوراً مادياً حتى يقال لابد أن يكون مسبوقاً بمادة ومدة.
إذن بالنتيجة نفس الوحي الذي هو نور ملكوتي قدسي بين الموحي وهو الله تعالى والموحى إليه وهو قلب النبي أمر مجرد عن عالم المادة، ولكن عندما نأتي لقوس النزول ينتقل الوحي إلى الصور ومن الصور إلى الألفاظ حينئذ عندما ينتقل من الصور إلى الألفاظ يلبس الصورة المادية ويكون مسبوقاً بمادة ومدة، فالمسبوق بمادة ومدة هو ألفاظ القرآن لا حقيقة القرآن، وحقيقة القرآن أمر مجرد ونور ملكوتي.
النقطة السادسة: في هذا الإطار حيث يتحول الوحي من نور ملكوتي إلى صورة ثم إلى ألفاظ فإذا جاء في عالم الألفاظ صار شيء مادي، سواء كانت مكتوبة أو منطوقة، فإذا تحول اللفظ إلى صورة مادية أصبح له حدود وأطر، ولذلك قد ينعكس عليه الواقع الذي هو فيه، ومثال على ذلك عندما تلاحظ القرآن الكريم تجد بعض الأمثلة في القرآن عربية أي من واقع الثقافة العربية، وبعض الأمثلة عامة ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾ [النور: 35] فهذا مثل عام وكل اللغات وكل الثقافات تتعامل مع هذا المثل، ولكن عندما يقول القرآن الكريم: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ [الأعراف: 176] هذا مثلٌ عربي، ويقول القرآن الكريم: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: 5] وهذا مثل مأخوذ من الثقافة العربية، إذن صار القرآن مؤطر بالثقافة العربية لأنه حمل أمثلة عربية.
الجواب عن ذلك:
انسجام الوحي القرآني مع المحيط الذي جاء منه النبي وذلك لكي تكون الصورة مضمونة، نزل عليه بلسانه حتى تكون الصورة مضمونة مئة بالمئة يعني اللفظ طابق الصورة كما تطابقت الصورة مع المعنى المجرد، اللفظ طابق الصورة، اختار أن يكون الوحي بلسانه وليس بلسان غيره حتى يحصل ضمان المطابقة بين اللفظ وبين الصورة، جاء بلغة النبي وجاء بأمثلة عربية حتى يكون للوحي تأثير سريع في المجتمع الذي نزل فيه، وهذا لا يعني أن الوحي وجود مادي وإنما غايته أن الوحي انسجم مع الواقع الذي جاء فيه من أجل التأثير، ولذلك يُقسم الوحي إلى عنصر ذاتي وهو المؤثر في البناء، وعنصر عرضي وهو استثمار واستغلال الواقع الذي نزل فيه من أجل زرع بعض المفاهيم، وغرس بعض المفردات.
المحور الثالث: عندنا سؤالان يتعلقان بالمحاضرة نجيب عنهما
السؤال الأول: إذا كان الوحي نوراً ملكوتياً مجرداً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لماذا إذن نجد اختلاف بين الأديان واختلاف بين المذاهب، واختلاف بين الفقهاء، هذا مما يدل على أن الوحي فيه عنصر بشري ولذلك يختلف البشر فيه؟
الجواب: هناك فرق بين الوحي وتفسير الوحي، مثلما الدكتور عبد الكريم سروش حاول أن يبرهن على أن القرآن فيه أخطاء، وقال أن القرآن ذكر أن هناك سبع سماوات ولكن العلم الحديث لم يثبت ذلك، نشأت المسألة من التفسير أي عندما نفسر سبع سماوات بسبعة أفلاك أو بسبعة فضاءات فسوف نقول أن القرآن ما وافق العلم الحديث.
فالخطأ ليس في القرآن بل في التفسير، فرق بين الخطأ في التفسير وبين الخطأ في المفسر ألا وهو القرآن الكريم، فرق بين الدين وبين فهم الدين، فرق بين الدين الواقعي والدين النظري، اختلاف الأديان، اختلاف المذاهب، اختلاف الفقهاء كله اختلاف في تفسير الدين وفهمه وليس اختلافاً في نفس الدين، الدين شيء واقعي له ثوابته قد يختلف البشر في فهم بعض نظرياته وآرائه ومفرداته.
السؤال الثاني: ما هو الضمان عندما يقال بأن الوحي نور وقع في قلب النبي ثم انعكس صوراً في ذهن النبي ثم انعكس عبارات جرت على لسان النبي ، فما هو الضمان بأن العبارات طابقت الصور والصور طابقت الواقع، وأن هذا الذي وصل بأيدينا الذي نعبر عنه بالقرآن الكريم مضمون، ومطابق لتلك الحالة النورية التي وقعت في قلب النبي المصطفى ؟
الجواب: الضمان نوعان: ضمان ثبوتي، وضمان إثباتي، ضمان ثبوتي بمعنى أن الألفاظ تطابقت مع الصور والصور تطابقت مع المعاني المكتنزة في قلب النبي المصطفى فهذا هو مقتضى ما ذكرناه في الليلة السابقة، أتينا ببراهين على ضرورة الوحي، أي أن المجتمع البشري لابد له من الوحي، فبما أن الله تبارك وتعالى مقتضى لطفه أن ينزل على المجتمع البشري وحياً بهدف أن يوصل دينه إلى المجتمع البشري فهو المسؤول تعالى أن يوصل دينه بصورة سليمة مضمونة.
وإلا لو لم يوصل دينه إلى المجتمع البشري بصورة سليمة أو معرض للخطأ فهذا نقضٌ لهدفه تبارك وتعالى، الله تبارك وتعالى هدفه من وجود المجتمع البشري أن يصل المجتمع البشري إلى كماله، ووصول المجتمع البشري إلى كماله يتوقف على رسالة السماء، فما لم تكن الوسيلة لوصول الرسالة وسيلة مضمونة فحينئذ سينتقض هدفه تبارك وتعالى، ونقض الهدف قبيح على الحكيم.
أما الضمان الإثباتي فهو الأدلة التي ذكرها علماء الكلام على عصمة النبي، معصوم في خلجاته وفي تصوراته، ونطقه، النبي إنسان معصوم مضمون، والأدلة الدالة على عصمة النبي هي الضمان، قال تبارك وتعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا «26» إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا «27» لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا «28»﴾ [الجن: 26 – 28]
وقال تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ «44» لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ «45» ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ «46»﴾ [الحاقة: 44 – 46]
وقال تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾ [الأعلى: 6]
وقال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى «3» إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى «4»﴾ [النجم: 3 – 4]
وقال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء: 106]، ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ [مريم: 97]
--------------------------------------------------------
*منير الخباز/شبكة المنير