البث المباشر

إشكالية تحميل الثقافة العربية أزمات ثقافة الغرب

السبت 2 فبراير 2019 - 09:53 بتوقيت طهران

الحلقة 213

الثقافة من الركائز التي غدت اساسية في بناء الامم ونهضتها، واليوم تتعالى الاصوات في كل مكان تدعو الى المحافظة على اصالتها ومقوماتها في مواجهة التحدي بغزو ثقافة امة اخرى لها خاصة في ظروف الضعف والتخلف، والمسلمون اليوم يواجهون في مختلف الاصقاع تحدياً خطيراً من دعوات تريد ان تميع ذاتية الثقافات وتخلط بيتها تحت اسم العولمة او عالمية الثقافة او من دعوات تريد ان تفصل بين حلقات التاريخ المتصلة تحت اسم المعاصرة والحداثة، اجل ان كل تلك الدعوات انما تستهدف فك الارتباط الوثيق بين الثقافة الاسلامية التي نعيشها وبين جذورها العميقة المتصلة بالاسلام وبالتراث الاسلامي الاصيل.
هناك شبهات كثيرة حول قيم الثقافة ووجهتها وخصائصها وحول علاقتها بالفكر والدين والمعرفة مما يقتضي بيانه والكشف عنه، وكلمة الثقافة مشتقة من ثقافة وهو لفظ قرآني اساساً وثقافة كلمة عريقة في اللغة العربية وهي تدل على الثقل النفسي والمنطقي والفطانة وفي المعاجم يراد بالفعل ثقف ثقفاً وثقافة صار حاذقاً خفيفاً فطناً وثقفه تثقيفاً بمعنى تثقيف الرمح اي تسويته وتقويته ثم استعمل للدلالة على الرقي الفكري والادبي والاجتماعي للافراد والجماعات، والثقافة في الواقع ليست مجموعة من الافكار بل رؤية في السلوك ترسم طريق الحياة اجمالاً فيما يشتمل عليه الطابع العام الذي ينطبع عليه شعب من الشعوب وهي الوجوه المميزة لمقومات الامة التي تتميز بها عن غيرها من الجماعات عقائد وقيماً ولغة ومباديء وسلوكاً ومقدسات وقوانين وتجارب، من هنا يكون لكل مجتمع ثقافة يتسم بها ولكل ثقافة خصائصها التي تحدد شخصيتها واجمالاً فأن الثقافة طريقة خاصة تميز امة بعينها عن امم اخرى. والعلماء الغربيون انفسهم يرون هذا الرأي في الثقافة كما نجد ذلك في قول هنري لاوس ان الثقافة هي مجموعة الافكار والعادات الموروثة التي يتكون فيها مبدأ خلقي لامة ما، ويؤمن اصحابها بصحتها وتنشأ منها عقلية خاصة بتلك الامة تمتاز بها عن سواها، ويعرف ارنست باركر الثقافة بأنها ذخيرة مشتركة لامة من الامم تجمعت لها وانتقلت من جيل الى جيل خلال تاريخ طويل وتغلب عليها بوجه عام عقيدة دينية هي جزء من تلك الذخيرة المشتركة من الافكار والمشاعر واللغة، ويقول تايلر ان الثقافة هي الكل المركب الذي يتضمن المعرفة والعقائد والفنون والاخلاق والقوانين والعادات.
معنى هذا ان الثقافة الاسلامية تختلف عن الثقافة الغربية في ان مقومات كل منهما تختلف عن الاخرى فالثقافة الاسلامية تستمد كيانها من الاسلام والقرآن واللغة العربية في حين نجد الثقافة الغربية اياً كان نوعها انما تستمد مصادرها من الفكر اليوناني والقانون الروماني واللغة اللاتينية وتفسيرات المسيحية التي وصلت اليها، ومن هنا يبدو الفرق واضحاً في مصادر الثقافات ويتجلى بوضوح القول بوحدة الثقافة العالمية ذلك ان للثقافات ذاتية وخاصة ومتصلة بأممها ولا تنفك عنها وهي من اجل ذلك لا تنصهر ولا تذوب في كيان واحد لكنها تتلاقى وتتعارف ويأخذ بعضها من بعض ما يزيده قوة، ويرفض بعضها من البعض الآخر ما يضاد وجوده او يتعارض مع الاصول الاساسية لمقومات فكره وكيانه وذاتيته.
والآن، ما هي العلاقة بين الثقافة والعلم؟ هذه العلاقة تتمثل في ان العلم عالمي بطبيعته يلتقي مع كل امة وكل مجتمع لكن الثقافه خاصة بكل امة بعينها والعلم يهدف الى ‌تنمية الملكات وهو في نهاية المطاف وسيلة وارادة وقد يستخدم للنفع والضرر على السواء وتتشكل وجهته في اطار الثقافة نفسها، اما العلاقة بين الثقافة والتعليم فأن التعليم يعني الاعداد المدرسي والدراسي لتكوين العصرية المؤهلة للثقافة والثقافة هي الدرجة العليا التي تكون الفرد تكويناً ممتازاً.
ترى ما هو الارتباط بين الثقافة والمدينة؟ ان الثقافة في كل امة مرتبطة بفكرها وحركتها وليست المدينة كذلك. من هنا كان من حق الامم ان تقتبس المدينة بوصفها ادوات ومواد خامة دون ان تقتبس منها ثقافتها لانها ذاتية وخاصة بهذه الامة وحدها، والمسلمون لهم ثقافة بمعنى اسلوب العيش ولذلك فأن حاجتهم الى العلم حديث والى وسائل المدينة الحديثة لا تفرض عليهم مطلقاً اقتباس الثقافة المرتبطة بها، سواء كانت في مجال العلوم والمفاهيم الانسانية او في مجال اسلوب العيش الغربي، ذلك ان المدينات البشرية المتعددة منذ فجر التاريخ هي ملك للانسانية كلها، كل منها تنظم حلقة وتسلمها للاخرى، وللمسلمين دور هام في بناء هذه المدينة وانماءها وقد قدموا المنهج التجربيي الذي قامت عليه النهضة العلمية وقدموا مناهج في المعرفة والتاريخ والعمران والتربية والقانون. من هنا يكون من حق الامم المختلفة ان تتطلع الى نقل اساليب المدينة والعلم ووسائلهما التجريبية والميكانيكية دون ان يقرض عليها اي قيد من حيث اسلوب الحياة الغربية.
ان للامم مطلق الحرية في ان تشكل المادة المقتبسة من العلم والمدينة في اطار قيمها ومفاهيمها وان تصهرها في بوتقة ثقافتها ولغتها الخاصة، ومن حقها ان تفعل ما فعله الغرب نفسه عندما نقل المدينة الاسلامية وتجاوز عن الثقافة الاسلامية واكثر ما نغرى به ويركز عليه التغريب والغزو الثقافي هو نقل العلوم الانسانية والمذاهب الاجتماعية، وهذه تتعارض ولاشك في اصول ثقافتنا القرآنية الاسلامية القائمة على التوحيد وتحرير الانسان من عبودية الانسان ومن عبودية الاوثان والجبرية، وهذا المفهوم مقرر بين جميع الباحثين والمفكرين والعلماء والمصلحين ولا سبيل الى نقضه او معارضته، وكل الدعوات التي تدعو الامم الى ان تتقبل الثقافة والمدينة معاً انما هي دعوات مسمومة مضللة هدامة يقف من وراءها الاستكبار والتغريب والتبشير والصهيونية، وتستهدف تحطيم معنويات الامم وتدمير مقوماتها والقضاء على شخصيتها وهدم ذاتيتها ودفعها لان تذوب في اطار الاممية والعالمية‌ فتفقد وجودها وتصبح غير قادرة على مقاومة الغزو والاستلاب.
كان هذا فصلاً من الحديث عن الثقافة بأعتبارها تعبر عن هوية الامة الخاصة المميزة وعن الثقافة بأعتبارها مما لا يجوز ان يستعار او ينقل نقلاً فقي هذا النقل قضاء على ثقافة الامة المنقول اليها او انسلاخ عن ادبها وتراثها وماضيها كله انه اذن نوع من الانتحار الاعمى الذميم.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة