البث المباشر

من جذور الوجودية في الفكر الغربي

السبت 2 فبراير 2019 - 09:52 بتوقيت طهران

الحلقة 212

‌في هذا الملتقى الثقافي نمر ببعض التيارات الفكرية الغربية الحديثة للتعرف على جذورها ومسيرتها وما تستبطن من اهداف.
وكان اللقاء الماضي من البرنامج قد القى نظرة على المذهب الوجودي والفلسفة الوجودية وقد عرفنا انها قد نشأت بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل لهذه الحرب من قتل ورعب وفزع من القنابل الذرية ومن الصراع الدولي على المجتمعات الضعيفة الآمنة وكل هذا جعل الانسان الغربي لا يرى للحياة غاية واضحة الى المتاع السريع الذي ينتهي في اية لحظة بينما تتفجر الحرب ويتوافد من الشباب الى ساحات الموت والفناء.
وهذا الاحساس بالخطر القائم في اية لحظة قد جعل النفس الغربية تثور فيها رغبة المزيد من الاندفاع بأتجاه الترف والرفة اذ لا توجد في الرؤية الغربية من غايات لحياة الانسان غير اللذة والاستمتاع.
ان الوجودية تركز على الفرد وتدعوه بقوة‌ الى التمسك بحقه، وهي تقدم وجود الفرد على وجود المجتمع وترى ان الفرد له كامل الحرية في تقليد مكانه في الحياة فأذا اختار لنفسه كان عليه ان يتحمل تبعات اختياره وله الحق في ان يحكم على الامور بأنها خير او انها شر حتى لو كان الحق في نظره شراً في نظر غيره او في نظر المجتمع.
والوجودية ترفض قيم الالتزام والضمير والفضيلة والخير والمسؤولية وهي تجنح الى الوجدان وتعني شأن الحدس وترفض العقل والحكمة وتنظر اليهما بأزدراء، ويمكن القول بأن الفلسفة المادية قد افرزت الان فلسفة الجماعة في الماركسية وفلسفة الفرد الوجودية واذا كان ماركس قد افترض ان تفسير التاريخ هو الانسان يبدأ من الطعام والقوت فأن الفرويدية ترمي الى تحطيم كافة الضوابط والحدود الدينية والاجتماعية والاخلاقية لكي يتمكن المرء من تحقيق ذاته منفصلاً من كل قيد، وفي سبيل هدف الوجودية هذا والانفصالية عن الجانب الروحي والديني القائم في اعماق كيان الانسان اعتبرت الوجودية‌ ان العالم كله خداع وان الانسان موجود بدون غاية وان العالم يمضي عابثاً دون هدف.
والواقع انه من حق الوجودية ان تفهم هذا الفهم المظلم ذلك لان الاجابة الصحيحة التي تكشف عن هدف وجود الانسان وغاية العالم انما تكمن في الرسالة التي حملتها الاديان الالهية الى الانسان من خالقه لتفسير ما ليس في استطاعته الوصول اليه دون عون من الوحي والنبوة ورسالة السماء.
ومتى اعتنق الانسان الوجودية وتجرد من الفهم الديني الاصيل فأن الحياة تبدو له وهماً كبيراً وظلاماً حالكاً لان الغاية الحقيقية التي جاء من اجلها اصبحت محجوبة عنه.
والفلسفة الوجودية تصدق حين ترى ان ازمة العصر هي غربة الانسان ونقصد هنا ان الانسان الغربي وذلك حين ترى التقدم التقني جعل منه ترساً في ماكنة او قطعة غيار في جهاز، بيد ان المسلم مستمعي الكريم ليس كذلك وهو لا يفهم الامور على هذا النحو لان دينه علمه مهمته ورسالته وكشف له عن الغاية وبهذا عرف المسلم ان له دوراً وسعياً وحركة واسعة هو مقبل عليها في صدق وايمان لانه يعرف ان من وراء سعيه كسباً حقيقياً وبلوغاً لدرجة ارقى ومكانة اعظم، ثم ان المسلم يؤمن بأن له ارادة مسؤولة يجزى عليها بالخير او بالشر في حياة اخرى قادمة‌ بلا شك وانه مطالب ليخوض معركة الحياة في اخلاقية التقوى والثقة بالله تعالى والرحمة بالانسان، ومن هنا يحس ان حياته ممتلئة عامرة حافلة بالضياء والخير وهو اي المسلم في سعيه الى الغاية الالهية وفي توكله على الباري تعالى واستعانته به لا يواجه ابداً ازمة القلق وازمة التشاؤم ولا يخاف الموت فالحياة‌ الاسلامية التي تعرف ابعاد وجودها ورسالتها وغاياتها جميعاً تواجه الحياة مواجهة الطمأنينة والسكينة والعمل الجاد الدائب دون ان تفقد لحظة واحدة‌ وجهتها او تقع في صحراء اليأس سواء كانت الحياة يسيرة او كانت عسيرة ذلك ان النفس المسلمة ترضى بالعسير واذا جاء العسر جالدته صابرة حتى ينطوي دون ان تحس بالقلق او الحزن.
اجل، ان الوجودية ليست الا اسماً جديداً لطابع التشاؤم القائم في اعماق الفكر الغربي منذ وقت بعيد وان طابعها هذا موجود لدى كثير من الفلاسفة السابقين غير ان مزية الصورة الجديدة على يد سارتر هي غلبة الطابع المادي عليها غلبة مطلقة.
ان الفكر الغربي مصبوغ منذ اليوم الاول بصبغة التشاؤم الذي ينبعث من عدم الاقتناع العقلي بوراثة البشر جميعاً لما يطلق عليه الخطيئة الاصلية فقد ساد الغرب طابع الوجدان المتشائم نتيجة هذه القضية وظهرت آثارها قوية واضحة على مختلف نماذج الاداب والفنون والفلسفة والاخلاق.
ومن خلال هذه العقيدة‌ السوداوية المتشائمة تنتشر على نطاق واسع في عالم الغرب افكار عن لا معقولية الحياة وعبث الوجود حتى امسى المفكرون المتشائمون يشننون هجمات تفسيرية على كل فكر معارض.
اجل ان الوجودية في نظر الباحثين هي اعلى مراتب التشاؤم ويرد البعض ذلك الى الاثار التي انقلبت على صاحبها وغدت وحشاً مدمراً يحاول ان يقضي على عقله وقلبه ويجعله آلة طيعة له، ويرى البعض ان الفرويدية والسريالية كانت نتاج الحرب العالمية الاولى وان الوجودية والهيبية هي من نتاج الحرب العالمية الثانية وان ما انشأته من الدمار والفتك والقسوة واليأس وفي مثل هذا الظرف كان الجو ملائماً لظهور افكار الوجوديين وتفسيراتهم التشاؤمية من الوجدان القلق الذي يشعر بأن الكون سائر نحو العزلة والعدم ومن الشعور المرضي الذي يشبه الغثيان ومن العالم الهش القابل سريعاً الى الانكسار والتحطم المروع.
والوجوديون يقولون ان الوجود الذاتي هو الشيء الوحيد الذي يملكه الانسان ومن ثم عليه ان يخلق نفسه بنفسه وان يختار بنفسه حيث يحيا الانسان وجوده الحقيقي غير عابىء بل مجاهداً يمكن ان يجد فيها هذا الوجود الذاتي من حدود او يعترضه من قيود ومعنى هذا ان الوجودية ترى انه ازاء هذه الجائحة المجنونة للحرب والموت على الانسان ان يحطم كل قيود الخلق والاجتماع والدين وان ينطلق الى لذاته وغاياته دونما اكتراث بشيء، ذلك ان لا يؤمن بالحياة بغاية فمن اجل اي شيء يبكي على شيء وهذا في الواقع حل ساذج ارعن لا يسوق الا الى المزيد من تدمير الحياة وانما هي صيحة الضعف البشري والقصور الذاتي والعجز عن فهم هدف الحياة ورسالة الانسان وهي استجابة‌ للحيرة والقلق بمزيد من الحيرة والقلق وهي في النهاية دعوة انهزامية هدفها التدمير الشامل.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة