البث المباشر

عن تنصير الأدب العربي

الخميس 31 يناير 2019 - 21:20 بتوقيت طهران

الحلقة 199

كانت الدعوة الى تنصير اللغة العربية من اخطر اعمال التغريب فقد كانت تستهدف اساساً اقامة حائط كثيف يعزل اللغة والادب في مصر وتحاول ان توجد لهما ملامح خاصة يعزلها عن اللغة العربية عامة وعن الادب العربي، هذه الدعوة الى التنصير كانت في الواقع جزءاً من الدعوة الاقليمية التي فرضها النفوذ الاستعماري في اوائل القرن العشرين، وحمل لواءها لطفي السيد بأسم اعطاء المصرية طابع الاستقلال والبروز على حساب الروابط الاساسية بين اجزاء الامة والتي تشكل اللغة العربية والادب العربي اسس اصيلة فيه، وقد عمل السيد الى تنصير اللغة العربية ثم جاء بعده رعيل من الدعاة الى تنصير الادب العربي، في مقدمته احمد غيث، طه حسين، وامين الخولي وغيره، وقد هجم هذا الاتجاه وكشف عن انحرافه في محاوله عزل مصر لغة وادباً عن اللغة العربية والادب العربي في الامة كلها، بدعوة ان مصر لها طابع خاص او مزاج خاص وهي دعوة مظللة لم تكبت امام النقد العلمي وانهارت في ضوء الحقيقة.
وفي اجواء تنصيرية اللغة والادب ظهرت الدعوة الى الفرعونية في مصر لابراز اهداف الفكرة الفرعونية في الادب العربي، وهي تستهدف في الدرجة الاولى اخراجه من المفهوم التوحيدي وادخاله في الوثنية وذلك بتقريب عبارات المومياء والطريق الجنائزي والزخارف والمعابد والكاهن والذبيحة وتقريب القرابين، وقد ارتفع صوت طه حسين في فترات متعددة بالدعوة الى اعتبار الفن الفرعوني مدخلاً الى الفكر العربي كله بدعوى انه عنصر من عناصر الغذاء الروحي والعقلي للشباب.
وكان صوت الاستاذ محمود محمد شاكر من ضمن الاصوات التي كشفت عن زيف هذا الاتجاه الفرعوني الجديد الذي يقوده دعاة التغريب والغزو الثقافي فقرر ان الفن المصري الفرعوني على دقته وروعته وجبروته ما هو الا فن وثني جاهلي قائم على التهاويل والاساطير والخرافات التي تمحق العقل الانساني، وان الفنان الفرعوني عبد الشمس وخضع لفرعون واقر له بكل معاني الربوبية قد آمن بالاباطيل والاساطير والتهاويل الدينية الوثنية الضخمة الهائلة المخيفة التي قذفها في قلبه ابالسة عصره من الجبارين والطغاة، ويضيف محمود محمد شاكر ان روح الفن هي دين المجتمع وعقائده وطبيعة ارضه وسائر اسباب حضارته، وهي التي تمنح الفنان القوة والقدرة على الابداع، اذن فدعوة الدكتور طه حسين الى الاستمداد من الفن الفرعوني ثم دعوته الى الاجتماع اجتماعاً اسلامياً ثم استمدادنا ايضاً من الفن الاسلامي انما هو تناقض عجيب لا يمكن ان يكون ولا ان يعمل به الا اذا شأنا ان توجد لمصر حضارة مقلدة ضعيفة وملفقة من الاشياء ليست نتيجة ولا شبه نتيجه للاجتماع المصري الحديث.
وفي مواجهة هذه الدعوة كتبت مجلة الانصار تكشف عن زيف هذا المنحى وعجزه عن احتواء الفكر الاسلامي والادب العربي، جاء في احد اعداده عام ٤۰ بقلم احمد صبري، استمر نشاط الدعاية الفرعونية ما يزيد على ربع قرن وكان الظن في هذا النشاط المفتعل ان ينتهي الى تحقيق المشروع القديم للفراعنة الذين طمعوا بواسطة التعاويذ بأن تعود الحياة السحرية فتسري في مومياءاتهم ومتاعهم ويذلك ينبعث الداء الفرعي في البلاد من اقصاها الى اقصاها وتعود الحياة القديمة كما كانت.
ولكن هذه السنوات التي كانت انقضت في الصياح والتهليل حول هذه المومياءات قد عاونت على تقريب هذه الاجساد المنحلة الى التلف، فما من قوة تستطيع رد قضاء الله تعالى في هذه الجثث الفرعونية التي بلي الطغيان في ماضي عهدها والتي بليت في هذا العهد انتهاكاً من عبرة الله تعالى في النظر اليها، ان صاحب الدعاية الفرعونية ومطيتها لم يكن في ذلك النشاط السابق المتواصل الا واحداً من ثلاث، فهو المترف الوصول، العاشق لذاته الذي يعتبر الفراعنة اجداده في المذهب او هو الشعوبي الهدام الضعيف الحيلة الذي يتنكر بهذه الدعاية لينال مأربه من العقيدة الاسلامية او هو الساذج اللين، الطبيعة التسوية التي تنبهر مشاعره من بريق الذهب وادوات اللهو والمجون فيلقي بنفسه في القاءاً في احضان هذه الخرافات الذهبية.
وتواصل مجلة الانصار حديثها في التصدي لتيار الفرعونية الحديثة فتقول: «ان هذه الحركة الفرعونية الخزفية الاخيرة التي تريد صياغة مادة القومية من مادة المتاحف والقبور انما تصل بنا الى مفترق الطرق فأما ان ترانا نلتفت ونصعد سلم التماسك والتجمع والتوحد في ضوء مقوماتنا التاريخية والثقافية والمبدئية واما ان نمد قدمنا الى الدرجة الاخيرة الهابطة فنقوي في ظلمات القوميات الصغرى التي تتولد منها آلاف العصبيات والمشاحنات الحزبية والطائفية، حتى ينتهي الامر بتحلل كل فرد في نفسه دون شعوره بما حصل حوله، كما تتحلل خلايا المومياء اذ تتساقط في صندوقها الاثري ذرة ذرة وخلية خلية».
فأن الفكرة الفرعونية قد وجدت من دعاتها الاول اقتناعاً بعدم صلاحها للبقاء وفي مقدمة هؤلاء الدكتور محمد حسين هيكل الذي عاد بعد ان قطع شوطاً طويلاً في تأييدها واعتذر عن ما صدر عنه في هذا الاتجاه، وكان ظنه وكان قد وقع تحت تأثير بعض افكار المستشرقين والتغريبيين انه انطلق بدافع بناء بأعتبار ان من لا ماضي له فلا حاضر له ولا مستقبل وهكذا انخدع بالدعوة الى احياء النزعة الفرعونية الميتة غافلاً ان الامة‌ قد قطعت التحول الاسلامي الكبير كل صلتها بالماضي الجاهلي الوثني في طريقة تفكيره وفي مظاهر حياته، وان تاريخ مصر التوحيدي انما يبدأ بالاسلام وبرسالته المنقذة.
ولن تكن مصر هي وحدها التي شهدت هذا اللون من التفكير العائد الى الخلف في ظلمات القرون البائدة، فقد شهد نظيراً لها كل من العراق وبلاد الشام مثل هذه الدعوة‌ وقد تمثلت في التحريك لاثارة الماضي الاشوري والبابلي في العراق واثارة الماضي الغابر الذي عاشت فيه جاهلية الفينيقيين في بلاد الشام وفي لبنان على وجه الخصوص، لكن هذه الدعوات المدخولة كلها قد باءت بالخيبة والخذلان ولم تستطع ان تقتلع الانسان المسلم من جذوره التوحيدية‌ وتلقيه طعم نار الجاهلية البائدة التالفة، شكراً لحسن استماعكم.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة