البث المباشر

من أخطار الترجمة التبشيرية

الخميس 31 يناير 2019 - 17:45 بتوقيت طهران

الحلقة 177

تعددت صور الغزو الثقافي الغربي التي استهدفت الادب العربي وكان المستشرقون والمبشرون وتلامذتهم التابعون هم من يوجهوا هذا الغزو ويغذيه، وكانت الترجمة من اللغات الاوربية الى اللغة العربية احد صور هذا الغزو فكيف تكون الترجمة صورة للتغريب والهجمة الفكرية الغربية.
كان مفهوم الترجمة بين ايدي اصحاب منهج النقد الغربي الوافد مفهوماً مضطرباً قد انحرف عن المفهوم الذي حدده الوضع الاسلامي في القرن الرابع حين نقل وترجم اثار اليونان والفرس والهنود من خلال تقدير لطبيعة الفكر الأصيل المفتوح القائم على قيمه وقواعده والمتصل بجذوره العميقة دون ان يجعل هذا المترجم المنقول يسيطر عليه او يجعله يؤثر فيه تأثيراً يشوه ذاتيته ومفاهيمه اما في العصر الحديث فإن الادب العربي لم يكن قادراً على ان يفرض ذاتيته ومنهجه على حركة الترجمة الحديثة اذ جاءت من خلال مرحلة استعمار له سيطرة فكرية وله اداة من ادوات الغزو الثقافي التي تحاول ان تفرض الفكر الغربي في كل مجال وان تزيح به الاصول النفسية والاجتماعية للأمّة، وان تحل بدلاً منها مفاهيم وقيماً جديدة غريبة تضع هذه الأمّة ‌وادبها وفكرها في بوتقة العالمية‌ التي تصهر ذاتيتها وتتركها شيئاً ممسوخاً لا هو من الشرق ولا من الغرب. وعلّة ذلك معروفة فإن قيم الادب العربي الاصيلة المستمدة من القران الكريم كانت قادرة دوماً على ان تعطي هذه الأمّة تلك الشخصية القويّة بذاتها القادرة على رد كل عدوان والتحرر من كل نفوذ مفروض او غزو دخيل، ولقد عرف الغرب كيف قاومت الأمّة غزوين من اخطر انواع الغزو هما الحروب الصليبية وحملات التتار وكيف استطاعت مقومات فكرها ان تدفعها الى المقاومة والدفاع، من هنا كانت اهداف الغزو الاستعماري الثقافي ان انقض على مقومات هذه الأمّة عن طريق مسخ ادبها وفكرها وغزوها بمذاهب وفلسفات ونظريات مضطربة من خلال الإباحة حافلة بالإلحاد والمادية والدهرية ولم يكن ذلك مستطاع إلا عن طريق الترجمة.
جاءت الترجمة من الاداب الاوروبية وهي الفرنسية والانجليزية في الاغلب ومن التراث الاغريقي الوثني وكانت الدعوة التغريبية تجنح في تعليل تقبّل هذه الترجمات الوافدة بأن العرب قد ترجموا ونقلوا من اليونان والفرس بيد ان هؤلاء التغريبيين قد اغفلوا ان الأمّة ‌اذ ذاك كانت في اوج قوتها وقادرة على ان تختار ما تشاء وان تعرض عما لا تراه صالحاً، وقد ترجمت الأمّة العلوم والفلسفات ورفضت الادب اليوناني ورأت انه لا حاجة لها به فالآداب مرتبطة ارتباطاً ذاتياً بينما العلوم لها صفة العلوم وهي خالصة‌ لكل الأمم، لكن حركة التغريب الوافدة كانت حريصة هذه المرة على الترجمة ونحن في مرحلة ضعف وفي ظل الاستعمار والاحتلال المسيطر الذي يؤازر حركة الترجمة ويفسح لها كل سبيل، ارادت هذه الحركة اول ما ارادت ان تشوه مزاجنا العقلي وذوقنا النفسي بأن تترجم له ما رفض العرب القدماء ابان قوتهم وصدق فهمهم ان يترجموه فدفع لطفي السيد وهيكل وغلاب وصفر خفاجة وعشرات غيرهم الى ان يترجموا الادب اليوناني والاساطير الاغريبقية بل لقد فرض التغريب على ابناء الأمّة في الجامعات ان يدرسوا اللغتين اليونانية واللاتينية وان يرغموهم على دراسة سوفوكليس وادخيلوس وغيره من ادب مخالف للذوق العربي في اباحيته وفساده واختلاف عناصره كلها من طبيعة الأمّة وطبيعة ادبها حيث يقوم على الوثنية وعبادة الاصنام والاستهانة بكل القيم الاخلاقية والاجتماعية التي تعارف عليها الادب العربي والمجتمع المسلم، وبذلك غدت ذاتيتنا الادبية طبائع اخرى تتباين وطبائعنا واذواقنا وكان هذا اخطر ما حققه انحراف حركة الترجمة تحت لواء دعاة المنهج الغربي المعادي.
ان مراجعة‌ دقيقة للاثار الادبية الغربية المترجمة لا تقدم حقيقة واضحة هي، ان هدف الترجمة لم يكن اميناً ولا خالصاً لإثراء الادب العربي لكنه كان وسيلة الى غزوه وتمويعه وتذويبه في مستنقع المادية وإلاباحية والوثنية واخراجه عن مقوماته وفرض مقومات اخرى عليه، والذين اشرفوا على هذه الترجمة انما كانوا يستهدفون غرضاً دفيناً خطيراً لم يعلنوه صراحة ولكنه كان واضحاً في الاختبار، هذا الهدف هو تقويض عقلية الاجيال العربية والاسلامية‌ انساء ثقافته واخراجه عن ذاتيته والدليل على ذلك ان الطراز الاجنبي يحوي فنوناً مهمة من الاداب والعلوم وان هذه الالوان الجادة مع الاسف البالغ قد حجبت عنه تماماً وابعدت وان الالوان التي فرضت على الأمّة وترجمت لها هي الالوان التي تثير الغرائز وتدفع الى الشبهات في الدين والاخلاق والتي تصور الحياة على انها حرية منفلتة لامسئولية فيها ولا ضوابط ولا تبعات، ومن هذه الترجمات وخاصة في مجال القصة المترجمة تتبين الغاية التي يحاول التعريب ان يفرضها والفلسفة التي يراد اقناعنا بها.
المعروف ان الاداب الاوربية والامريكية الحديثة مرتبطة اوثق ارتباط بالآداب اليونانية والاغريقية الوثنية وانها تستمد منها، ومن هنا فأن قراء الترجمات في الادب العربي لا يستطيعون ان يعرفوا ما موقفهم تماماً، اما القول بأن النفس الانسانية واحدة‌ في كل عصر وكل قطر وجيل وان ما يرسم الادب الغربي اذا ترجم الى الادب العربي فأنه يجد تقبلاً لأنه يجد مشابهة‌ عند النفس الانسانية‌ العربية والواقع ان هذا القول على اطلاقه غير صحيح بل هو مغالطة مسرقة ذلك ان النفس الانسانية لا تلتقي في الحقيقة إلا على القيم العليا وهي تفهمها في كل أمّة‌ وكل عصر فهماً مختلفاً وبين هذه المفاهيم في الاداب الاوربية وبينها في الادب العربي فوارق كثيرة وخلافات واسعة مصدرها وصول العقائد والقيم وخاصة‌ ما يتعلق بمفاهيم العدل والتوحيد والاخلاق وكلها تختلف اختلافاً واضحاً في مفهومها بين الامم الغربية وبين الأمّة التي تستمد من الاسلام حيث يبدو المعروف هنا منكراً هناك والحق هناك باطلاً هنا.
ان الدعوة الى انصهار الادب العربي في الاداب الغربية‌ من خلال الترجمات انما هي دعوة غير أمينة وليست من اجل بناء هذا الادب او رفع شأن هذه الأمّة وانما يراد بها ان تكون تابعة وذليلة ومنصهرة لا حول لها ولا قوة ولا حياة، وان الذين حملوا لواء‌ الانحراف في الترجمة انما كانوا يقصدون الى ذلك قصداً‌ وكانوا يعملون من اجل خدمة‌ حركة الغزو الثقافي التابع من النفوذ الاستعماري، وسنعرض في اللقاء القادم ان شاء الله لأخطار الترجمة التي يوجهها دعاة المنهج الغربي المعادي من خلال نموذجين مترجمين هما كتاب مختارات امرسون وقصة الحضارة لوول ديورانت فماذا في هذين الكتابين من تشويه وتزوير ومخاطر، هذا ما نأمل ان نتعرف عليه في اول فرصة لهذا اللقاء.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة