البث المباشر

الاستعمار الغربي وحركة الترجمة المبتذلة

الخميس 31 يناير 2019 - 17:44 بتوقيت طهران

الحلقة 175

عني الادب العربي الحديث بأمرين احدهما احياء الادب العربي القديم والثاني الترجمة من الآداب الاوروبية وغير العربية بصفة عامة، وفي كلا هذين الأمرين تدخّل منهج النقد الغربي الوافد، وهذا التدخّل الاجنبي الغريب حال دون الانطلاق الصحيح وعرقل الاتجاه الاصيل الى الهدف، اذ المفروض ان تحقق حركة احياء التراث وحركة الترجمة ‌عن الآداب الاخرى اغناءاً للأدب الغربي الحديث وتربطه بجذوره وتخلف أجود ما في الآداب الأجنبية وفق قاعدة الترقي والتقبل والافصاح التي عرفها الأدب العربي والفكر لدى المسلمين منذ قرون دون ان يكون ذلك عاملاً على هدم شخصيته او تذوب وجوده او صهره في كيان آداب اخرى. أجل كان قوام الترجمة والاقتباس في مفهوم الادب العربي وفكر المسلمين منذ قرون هو دائماً المحافظة على ذاتيته واستمداده من جوهره وضميره وفق نتاجه الاجتماعي وذوقه النفسي بلا تفريط في قيمه الأساسية المستمدة من الإسلام والقرآن القائمة على التوحيد والعدل الإجتماعي والأخلاقية التي هي القاسم المشترك الأعظم بين مفاهيمه وقيمه وكذلك في ظل القاعدة الأصيلة له وهي التكامل والوسطية والتقاء العناصر في وحدة واحدة.
من الحق ان يقال ان حركة احياء التراث العربي قد افاضها الاضطراب نتيجة فرض منهج النقد الغربي عليها وهو منهج منبثق من الادب الغربي نفسه واستمد مقوماته من الذاتية الغربية بكل مقوماتها ومزاجها وطبيعتها وارتبط بالمذاهب الحديثة من آثار داروين وفرويد وتين وديكارت ودوركاين، ومن البين الذي لا مراء ان هذه العناصر الغربية لا تمثل في مجموعها النفس العربية ولا تستوعب الذاتية العربية ‌بل تبدو غريبة عنها كل الغرابة متباينة معها كل التباين ذلك ان النفس العربية قد اقامت الادب العربي وفق قيم يترابط فيها قوى الجسد والمادة والمعنى والدنيا والآخرة وقوامها نظرة وسطية متكاملة تصدر عن طبيعة مشرقة واضحة تطلع فيها الشمس باهرة الضوء ومن نفس عرفت بالصراحة والوضوح والايمان العميق بالله تعالى، وفي المجال الثاني مجال الترجمة من الآداب الاجنبية فقد سارت الحركة في اول امرها على نحو طبيعي إلتمس مفهوم الترجمة الأصيل وهو الإضافة البناءة للاداب والثقافات بما تحتاج اليه هذه الثقافة او ما يتفق مع روح هذه الاداب بيد ان النفوذ الاستعماري الوافد ومعه مؤسسات التبشير ومدارس الارساليات ومطابعها قد سرع قذف الادب العربي بمقدار ضخم من الترجمات الهزيلة الاسلوب الفاسدة المضمون التي اغرقت القارئين بقيم ومفاهيم لا تقدم ايجابيات المجتمعات الغربية بل ترسم اسوء مظاهرها واخس جوانبها فيما يتصل بالفسق والزنا والفاحشة والإثم على ‌نحو يحسن هذه المعاني الرخيصة المدمرة ويرسمها كأنها امور طبيعية بسيطة ليس محرمة ولا هي انحراف في هذه المجتمعات نفسها.
ولم يقف انحراف الترجمة عند القصة وحدها بل امتد الانحراف الى مختلف فنون الترجمة من الأدب والشعر والعلوم والمباحث النفسية والاجتماعية والفلسفية، فقد قدمت هذه الترجمات مذاهب وآراء وعقائد مختلفة مضطربة متباينة فيها القديم الذي تحول عنه أصحابه وفيها الجديد الذي ما زال غير ناضج وفيها ما يتصل بالبيئات الغربية وما يتصل بالإلحاد والإباحة والشك والمادية وقليل منها ما يحمل طابعاً انسانياً، ولم تكن هذه الترجمات قائمة على الاختيار الصحيح ولم يكن من وراءها ضمير يؤمن بالأمة وفكرها وقيمها في الأغلب وإنما كانت الترجمة في الأكثر تستهدف إغراق الفكر الاسلامي والأدب العربي في ذلك الركام الغربي المتباين المتضارب.
ولا ريب ان من شأن كل أمة أن تكون لها فلسفتها ومذاهبها، فالأمم الغربية نفسها لا تنقل فكر أمة اخرى إلا بحذر وروح كامل يقوم على أساسه الإقتناع بالأصل الأصيل ومع وضع المنقول موضع الإستشارة والنظر والإقتباس والأمم الغربية تنقل الفكر الماركسي وتنقده وكذلك الدول اليسارية تفعل ذلك في الفكر الرأسمالي اما نحن فقد جرت الترجمة عندنا على نحو غريب إختلطت فيه كل المفاهيم والقيم والفلسفات قديمها وجديدها شرقيها وغربيها، وحرص النفوذ التغريبي الذي كان له أثره البعيد في هذا العمل على تشويه الأدب العربي والفكر إلاسلامي واذابتهما في بوتقة الفكر الذي يسمونه العالمي.
واذا قيس ما ترجم الى ما لم يترجم اتضحت أمور كثيرة منها:
أولاً: إنَّ ما ترجم هو الجانب الحسي المتصل بالأذواق والأخلاق وهذا جانب خاص بكل أمة وليس جانباً عاماً ولسنا بحاجة إليه على الإطلاق.
ثانياً: ان ما أهمل هو الجانب الذي تتطلع إليه الأمم وهو جانب العلوم والتكنولوجيا والثقافات الخاصة بالفلك والهندسة والطب والصناعة.
ثالثاً: إنَّ ما ترجم من الفلسفات والمذاهب الإجتماعية والإقتصادية والنفسية لم يعرض على أنه نظريات وفروض قابلة للنقد والنقض او إنها نظريات عصر وبيئة قابلة للتحول والتغير وإنها تصلح لأمّة دون أمّة وبيئة دون بيئة بل عرضت على انها علوم قيلت فيها الكلمة الأخيرة متناولها الذين قرأوها مترجمة على إنَّها أصول مقررة، وقد حدث ذلك بالنسبة الى مذهب فرويد في علم النفس ومذهب ماركس في الإقتصاد ومذهب دوركاين في الاجتماع ومذهب داروين في العلوم الطبيعية ومذهب سارتر في الوجودية ومذهب ديلي في التربية وكلهم من اليهود وقد قصر المترجمون تقصيراً فاضحاً على أنَّهم لن يضعوا مع هذه الترجمات تحفظات تصحح الآراء وتضعها في مكانها الصحيح.
ان الأمّة‌ التي ترجم الى أدبها وثقافتها كل هذا الركام الغربي المتناقض هي أمّة لها فكرها القائم على قيم أساسية‌ في مجال النفس والإقتصاد والإجتماع والتربية والسياسية وهو فكر نابع من طبيعتها متصل أعمق الإتصال بذاتيتها وإنفتاح هذا الفكر على الفكر الآخر ينبغي أن يتم من خلال عرضه على اسسه ومعاييره فيأخذ منه ما يأخذ ويرفض ما يرفض، أمّا الصورة التي حرص التغريب والغزو الثقافي على اقامتها فهي ان يفترض اساساً ‌اللاوجود للفكر الإسلامي الذي تتكون منه شخصية الامة وان هذه الامة تبدأ الان من نقطة الصفر بأن تتلقى الفكر الغربي في مختلف جوانبه النفسية والإجتماعية وفي مجالات السياسة والتربية والقانون دون اعتبار لقيم الفكر الإسلامي الأساسية، ومن هنا كانت خطورة الترجمة في هذه المجالات وهي اشد وأقسى من خطورة الترجمة في مجال القصة التي استهدفت الجانبين الإجتماعي والأخلاقي، اجل ان المترجمين الى الادب العربي لن يعنوا بما تحتاج اليه الأمّة ولما يتفق مع كيانها وذوقها ولم ينصحوها في حين ان المترجم مؤتمن على ان هذا الذي ترجموه ليس إلا نظريات علمية عرضة للصحه والخطأ، صالحة لبعض البيئات وغير صالحة لغيرها متصلة ببعض العصور ومنفصلة عن بعضها الآخر.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة