كان من نتائج الدعوة الى فصل الادب العربي عن الفكر والدين التي حمل لواءها المستشرقون وعدد من الادباء العرب المستسلمين للغرب، كان من نتائج هذه الدعوة ان استطال الادب واندفع يشق طريقه الى مختلف قطاعات الفكر ليقول فيها دونما دليل واضح او دراسة عميقة، فقد اتجه الادباء الى مجال الفقه والتاريخ والفلسفة والعقائد والاخلاق ليصدروا فيها احكاماً متجرأة مستمدة من نظرتهم الادبية المتأثرة بمذاهب الغرب في التحلل من مختلف الضوابط وكانت هذه في حينها محاولة لإفساد كل المناهج، وقد واجه هذا الاتجاه معارضة ورداً من أجل تحديد دائرة الادب ودفع خطر التداخل بين دوائر النشاط العقلي المختلفة وكف عدوان بعضها على بعض.
وممن تصدى لهذا الخطر العلامة فريد وجدي الذي كتب في جريدة الاهرام عام ۲۳ يقول: «لسنا ننسى ماجره تدخل الادباء فيما ليس من اختصاصهم في المباحث الدينية فقد تناولوها على طريقة الماديين واثاروا فيها شكوكاً لا محال لها، فكان من اثر ذلك ان هاج الناس عليهم هياجاً مشروعاً، هؤلاء الادباء يجرون في مباحثهم التاريخية والاجتماعية على غير الاسلوب العلمي من التحقيق والتمحيص ولو انهم تركوا هذه المباحث للاختصاصيين فيها لكان خيراً لهم ولكن الوهم السائد اليوم ان الاديب له ان يتناول بالبحث كل شيء هو الذي يورطهم في بحوث لو وجدت نقاداً اقوياء لألحقوا بأدبهم ضرراً بليغاً».
ثم صور فريد وجدي غاية الادب فقال: «ان غاية الادب تبليغ الناس ما في الحياة والوجود من حق وباطل وجميل وقبيح وخير وشر»وقال: «ان الادب لو تجاوز دائرة اختصاصه كان اداة شر في ايدي محترفيه وفي رأيي ورأي كل غيور ان الادب يجب ان يخضع لقانون الاخلاق القائمة على حراسة الاجتماع»، ويتعرض فريد وجدي لهؤلاء الادباء المتجاوزين عندما ينطلقون من اهواءهم ليحللوا قضايا المعتقد والاخلاق والدين فيقول «ما للادباء وتحليل عاطفة الدين وكيف يرجى من اديب كل همه مصروف الى عاطفة الهوى وتصوير وقع الوعود الكاذبة وعدوان المنافسين والمعاكسين ان يتناول بالبحث اعلى عواطف النفس الانسانية وهي عاطفة الدين بمثل اسلوبه الذي الفه واستولى عليه».
المسألة الاخرى التي اعتمد عليها دعاة التغريب في الادب العربي، هي مسألة الاعتماد على المصادر الزائفة، اجل ان من اكبر الاخطار التي واجهت الادب العربي من خلال المذاهب والنظريات الوافدة على ايدي دعاتها وحملة ألويتها مسألة المصادر والرأي في كتب المحاضرات وما سجله رواة الادب والقصص من اخبار فهل تصلح هذه كمصادر علمية يمكن الحكم عن طريقها على الامم والمجتمعات حكماً صادقاً لا شبهة فيه؟ من اليقين الذي لا شك فيه ان كتب المحاضرات القديمة وروايات القصاص ليست مصادر علمية صحيحة وانما هي مراجع زائفة اعتمد عليها خصوم الادب العربي والفكر الاسلامي من اجل ترويج اراء كاذبة مضللة ذلك ان هذه المؤلفات لم يكتبها علماء موثوق بهم ولم تدون وفق اصول العلم والبحث وانما كتبت للتسلية والترويح وقصد بها جمع الفكاهات والنكات والاحاجي والقصص الصادقة والكاذبة لإغراق المجتمعات بالأوهام والأباطيل، وقد ارتفع صوت العلماء والمحققين في هذا العصر بالتحذير من هذه المصادر الزائفة التي تجمع اخبار الندماء والجلساء والمغنين والمضحكين امثال ما كتب اسحق بن ابراهيم الموصلي وابن خرداد به والمروزي وابن المرزبان، ومن هذه الكتب ثمار القلوب للثعالبي، فالثعالبي مهما علت منزلته في الادب فانه ليست له منزلة المحقق والمدقق الذي لا يروي إلا عن تثبت وتمحيص وانما هو اديب يحب الفكاهة ويروي النكتة.
وقد ظلت هذه المؤلفات مجهولة ضائعة حتى جاء المستشرقون والمبشرون في العقود الاخيرة فاعادوا طبعها ونشروها في العالم العربي كله واخرجوا اغلبها في طبعات فاخرة واوعزوا الى تابعيهم من دعاة التغريب الاشادة بها والنقل عنها واعتمادها مصدراً من مصادر التأليف، وكان اخطر من اذعن لدعوة المستشرقين هذه هو الدكتور طه حسين الذي ظل اكثر من ثلاثين عاماً ينقل من كتاب الاغاني ويشير اليه ويوعز الى تلاميذه والى الادباء لإتخاذه مصدراً من مصادر البحث.
وكان لكتاب ألف ليلة وليلة نفس الاثر فقد تولى الاهتمام به عدد كبير من المستشرقين ووصفوه بأنه اعظم مصدر لتصوير المجتمع الاسلامي فكانوا في ذلك ظالمين جائرين عن قصد سبيل.
يقول احد الباحثين لا عجبت من جعل كتب الادب التي يقصد بها عادة الى الفكاهة ميزاناً يوزن به رجال التاريخ وتؤخذ منه تراجم العظماء ودهشت مما كان يجعله خلفاء العرب وقضاتهم على فرض ثبوته آية على تجرد العرب من الحضارة ولو جعل آية على تجرد اولئك الخلفاء والقضاة انفسهم من الفضيلة لكان اقوم سبيلاً.
ولا شك ان مثل هذه المراجع والمصادر لا تكون صالحة لإصدار احكام عامة وتاريخية حاسمة على النحو الذي اصدره طه حسين وهو ليس بمؤرخ اعتماداً على كتاب واحد هو الاغاني وعلى مجموعة من الشعراء الماجنين امثال ابي نواس وبشار والضحاك وحماد عجرد لأنه يقول ان القرن الثاني للهجرة كان عصر شك ومجون، والواقع ان كتاب الاغاني ليس في حقيقته مصدراً تاريخياً او مرجعاً علمياً يمكن عن طريقه الوصول الى الاحكام الحاسمة وليس مجموع الشعراء الماجنين يحكم على عصرهم في قلة قليلة الى جوار العلماء والفقهاء والفلاسفة والصوفية والزهاد، وقد اعتمد طه حسين في اصدار هذا الحكم على مجموعة من شعر الشعراء الماجنين يقول (ان هؤلاء الشعراء والمحدثين واصحاب الكلام)، وقد عارض هذا الرأي كثيرون حتى قال تلميذه الدكتور زكي مبارك انه رسم لوحة خلق معدنها من الكذب والتمويه وصنعت مادتها من الضلال والبهتان، وقال ايضاً عن استاذه طه حسين ان شهوة الاطلاع في نفسه لإكتشاف الجوانب السيئة في حياة الشعراء والكتاب خلقت في كتابه جواً من المجون وقال: (ان طه حسين يستقي اراءه في العصر العباسي من مصدرين الاول كتاب الاغاني والثاني شعر الماجنين من الشعراء، واما شعر الاغاني فصاحبه يحدثنا في مقدمته انه قصد من كتابه اللهو والتسلية قبل ان يقصد العلم والتاريخ اما شعر الماجنين وحياتهم فلا ينهضان دليلاً على فساد عقيدة عصر واخلاقه).
*******