لا يخفى اتساع دائرة مصالح الاحتلال على جبهة البحر في العقدين الأخيرين، ففي عام 2013م عندما بدأت عمليات الاستخراج من حقل تمار، كانت "إسرائيل" تنظر إلى نفسها كـ"اقتصاد طاقة" ناشئ، يطمح إلى مزاحمة الاقتصادات التقليدية للقطاع، من مصر إقليمياً إلى روسيا عالمياً. وفي سابقة لاعتداء "إسرائيل" على حقل "كاريش"، اعتدت على حقل ليفياثان، الذي دار جدل حول ملكيته أيضاً، إذ إنه يقع في المنطقة الاقتصادية الخاصة بمصر.
بعد سنوات، حاول الاحتلال الهيمنة على غاز شرق المتوسط، تارةً من خلال نسج التحالفات مع قبرص واليونان ضد تركيا، وتارةً أخرى بتلطيف الأجواء مع تركيا؛ بحثاً عن صيغة "رابح – رابح".
البحر بالنسبة إلى الاحتلال أكثر من ساحة استثمار جديد، إنه حاضنة لمشروعات كبرى أخرى، ومن ذلك مشروع Blue cable system الذي سيربط فلسطين المحتلة بإيطاليا واليونان وفرنسا بكابل إنترنت تشرف عليه شركة غوغل، سيتم إنجازه في عام 2024م. ومن جهة أخرى، مشروع Euro-Asia Interconnector، الذي سيعمل على توليد طاقة كهربائية بديلة للاحتلال، أيضاً استناداً إلى خطوط تحت البحر مع اليونان وقبرص.
تتسع خريطة الأطماع الإسرائيلية في البحر، بقدرات بحرية متواضعة، كان أساسها التاريخي غطرسة الاحتلال بتبني فرضية أن الحروب مع دول المنطقة لن تكون إلا جوية خاطفة، لذلك لا داعي إلى سلاح بحرية متطور.
وقد سبّب التمسك المغرور بهذه الفرضية هزائم بحرية متتالية للاحتلال، ومن ذلك إغراق سفينة "إيلات" بعد حرب حزيران/ يونيو بخمسة أشهر، ما أعاد جزءاً من الروح المعنوية اللازمة لاستكمال المواجهة، وكذلك عملية الضفادع البشرية المصرية التي أطاحت سفينة حربية وسفينة للقوات الخاصة الإسرائيلية، وكذلك رصيف ميناء "إيلات" (وهي العملية التي تم تمثيلها في الفيلم السينمائي المصري المعروف "الطريق إلى إيلات").
على الرغم من ادعاء عدد من الدراسات الاستراتيجية الإسرائيلية عن قوارب ابتكرها الاحتلال خلال حرب أكتوبر، كانت هزيمة الاحتلال في تلك الحرب على جبهة البحر عميقة، فالبحرية المصرية أطبقت طوقاً محكم الإغلاق على الممرات البحرية التي قد تمر منها سفن البترول، واعترضت البحرية المصرية 200 سفينة محايدة ومعادية، وناقلة النفط الإسرائيلية التي لم تستجب، أغرقتها البحرية المصرية في اللحظة نفسها.
بعد سلسلة الهزائم التي مرّ بها سلاح البحرية للاحتلال (الذي بدأ خطواته الأولى باستخدام مخلفات القوارب البحرية البريطانية)، حاول أن يسرع خطوات التطوير عبر تهريب عدد من القوارب البحرية الألمانية (SAAR3) من الشواطئ الفرنسية، فيما عرف بمشروع شيربورغ عام 1969م، وصولاً إلى عام 2015م لشراء سفن حربية ألمانية أيضاً وهي (SAAR6).
يبدو الفشل ملازماً لـ"إسرائيل" على جبهة البحر، فمن جولات الهزائم أمام البحرية المصرية إلى لحظة "انظروا إليها تحترق" في حرب تموز/ يوليو، وصولاً إلى مسيّرات "كاريش"، لا تبدو البحرية الإسرائيلية التي تنقصها المدمرات وحاملات الطائرات، قادرة على منافسة بحرية مع دول أخرى في المنطقة، سواء كانت الإيرانية أو المصرية أو التركية، ولا قادرة على مواجهة تحديات المسيّرات، ولا قادرة على حماية مساحة مصالحها الحيوية الممتدة في البحر بما هو أكبر بكثير من إمكانياتها البحرية.
يضاف إلى كل ذلك، ما يعدّه صامويل هيلفونت في دراسته الصادرة عن كلية الحرب البحرية في الولايات المتحدة، عنصراً قاتلاً؛ إنه الثقافة، أو ما سمّاه "الشخصية اليهودية" المرتبطة بالبر والعاجزة عن الالتحام بالبحر.
يقول الباحث إن سياسات "إسرائيل" في التحول إلى البحر "Turn to sea"، تصطدم بعائق ثقافي، مرتبط بغياب البحر عن "الهوية"، ويقصد هنا هوية المستوطنين، أو ما يسميه في مقالته "هوية اليهودي الجديد".
يرى الكاتب أن الحركة الصهيونية بتركيزها الكبير على فكرة الأرض "أرض الميعاد"، إنما كرّست شخصية يهودية بريّة، لا يمثّل البحر بالنسبة إليها أكثر من عائق في طريق الوصول إلى البرّ. وانطلاقاً من ذلك، يجد أن العامل الثقافي أو "مهمة دمج البحر في الهوية" يشكل عائقاً كبيراً أمام طموحات "إسرائيل" البحرية.
لا تعتمد القوة البحرية فقط على السفن والموانئ، وإنما تحتاج إلى هوية تدفع السكان إلى البحر، يعملون فيه بحارين ومهندسين وصيادين هواة ومحترفين، وهذا ما لم تنتجه "إسرائيل" من مجموعات المستوطنين.
في غرب الكوكب، في مجتمع استيطاني آخر، كان ثيودور روزفلت عام 1905م يبحث عن أيقونة بحرية يغري بها الأميركيين للخدمة في سلاح البحرية، فنبش رفات جون بول جونز من باريس، واحتفل به في الأكاديمية البحرية في الولايات المتحدة أملاً في إثارة رغبة البطولة في نفوس الآخرين، وبالتالي الانضمام إلى الكلية.
جون بول جونز الملقب بـ"أب البحرية الأميركية" هو اسكتلندي الأصل، وخدم في بحرية الإمبراطورية الروسية في آخر حياته. يبدو بحث الاحتلال عن مسيرة مشابهة مهمة أكثر صعوبة بكثير مما جرى في نموذج المجتمع الاستيطاني الأوسع "الولايات المتحدة".
كان بن غوريون يقول (لن تعيش "إسرائيل" من دون البحر)، وكان يعرف أنها مضطرة للعيش كجزيرة مع الرفض الواسع لدمجها في المنطقة. 98% من تبادلها التجاري يمر عبر البحر، لأن البر كان مغلقاً تماماً، وعلى الرغم من كل ذلك، لم تولد إلى يومنا هذا "الشخصية اليهودية" البحرية، لا لشيء إلا لأنه يلفظ العابرين.
محمد فرج