عظم الله اجورنا واجوركم بمصاب ابي عبد الله الحسين، تفجر الدم الحسيني المقدس في كربلاء ففجر الى الابد صوت الثورة والبراءة والندبة والغراء وغدت كربلاء مزاراً عظيماً يرصده اصحاب القلوب الوالهة واهل البصيرة والايمان وشهدت الحياة اليومية للمؤمنين ظاهرة الزيارة للمشهد الانور في كربلاء الحسين (صلوات الله عليه)، وكان الشعر اسلوباً للتعبير عن هذه الزيارة على طول التاريخ وصورة عن هذه الظاهرة الولائية فيما مرت به من مراحل وما شهدته من وقائع واحداث، وقد رأينا في اللقاء السابق ندرة التعبير الشعري عن الزيارة في القرون الاولى لما كان في هذه القرون من بطش اموي عباسي للزائرين الامين الحرم الحسيني المقدس ورأينا كيف تعاظم الاقبال على قصد قبر الشهيد المظلوم كما رأينا الى جوار هذا دعوة الشاعر الاخرين الى شد الرحال تلقاء ارض الدم والشهادة فيما اعقب من القرون، الظاهرة الاخرى في شعر الزيارة من ديوان الشعر الحسيني الكبير تتصل بالدوافع التي كات تموج في صدور الزائرين وهي دوافع عديدة يجمعها الشوق الخالص لايمان ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) ورغبة التفجع والندبة والبكاء، ومن اهم هذه الدوافع في شعر المزار الزيارة بدافع الحب والشوق والحنين وهي زيارة متلابسة ولابد بالبكاء والحزن والاسى والاحساس بالكرب والثكل والهول، وهذا الدافع هو اقوى الدوافع وابقاها في زيارة الزائرين.
وان نماذج مختارة من هذا الشعر كافية للاعلان عن هذا المعنى الباكي المتعفر بتراب كربلاء. يقول عقبة بن عمر السهمي وهو من اوائل شعراء الطف:
مررت على ابيات آل محمد
فلم ارها امثالها يوم حلتي
الم تر ان الشمس اضحت مريضة
لقتل حسين والبلاد اقشعرت
وكانوا رجاءاً ثم اضحوا رزية
لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
ويقول الصنوبري من القرن الرابع:
انيخا بنا العيس في كربلا
مناخ البلاء مناخ الكرب
نشم موس ذاك الثرى
ونلثم كافور تلك الترب
ونقضي زيارة قبر بها
فأن زيارته تستحب
سآسى لمن فيه كل الاسى
واسكب دمعي له من سكب
ومن هذا النمط قول ابن حماد البصري في القرن الرابع ايضاً:
مصارع اولاد النبي بكربلاء
يزلزل اطواد الحجى ويزيل
فأي امريء يرنو قبورهم بها
واحشاءه بالدمع ليس تسيل
الى ان يقول:
اتيت اليها زائراً يستشفني
هوى وولاء ظاهر ودخيل
ولما رأيت الحير حارت مدامعي
وكان لها من قبل ذاك همول
والحير هو الحائر الحسيني في كربلاء
ومنه ايضاً قول الشريف الرضي
قف بي ولو لوث الازار فانما
هي مهجة علق الجوى بفؤادها
بالطف حيث غدا مراق دماءها
ومناخ اينقها ليوم جلادها
يا يوم عاشوراء كم لك لوعة
تترقص الاحشاء من ايقادها
وما زلنا نلتقي بهذا الحزن والبكاء خلال الزيارة في نصوص شعرية اخرى كثيرة كما في ابيات لداعي الدعاة من القرن الرابع وابيات لطلائع بن زريه، القرن السادس وعلي بن المقرب، القرن السابع وعلاء الدين الشافيني في القرن الثامن وابن ابي شافين البحراني في القرن العاشر وعبد الوهاب الطريحي في القرن الحادي عشر وشرف الجد الحفصي القرن الثاني عشر وابن فلاح الكاظمي القرن الثالث عشر وكذلك الشيخ عبد الحسين الانسن في مثل قوله:
سفازدة تحنو عليه صفائحه
رواد الحيا مشمولة وروائحه
مررت به مستنشقاً طيبه الذي
تضوع من فياح طيبك فائحه
اقمت عليه شاكياً بتوجع
تباريح حزن في الحشا لا تبارحه
بكيتكم بالطف حتى تبللت
مصاريعه من ادمع ومطارحه
حقيق علينا ان ننوح بمأتم
نبات علي والبتول نوائحه
وممن نحى هذا المنحى في الزيارة الباكية المتفجعة شعراء آخرون يدور ذكرهم والاستشهاد بأشعارهم.
ان هذا الدافع للزيارة هو لمحض الشوق والحنين المنبعث مما يحمله المؤمن الموحد من مودة للنبي واهل بيته ومن حب متعمق اصيل وقد سجل ابن حماد البصري في القرن الرابع هذا المنزع في الحب والشوق الذي تتوارثه اجيال المؤمنين الصادقين بما يتضمن من الولاء والائتمان وحسن المشايعة والمتابعة فيقول:
امثل مولاي الحسين وصحبه
كأنجم ليل بينها البدر او اسنى
الى ان يقول مخاطباً اهل البيت (عليهم السلام):
عليكم سلام الله يا آل احمد
متى سجعت قمرية او علت غصنا
مودتكم اجر النبي محمد علينا
فآمنا بذاك وتصدقنا
طهرتم فطهرنا بفاضل طهركم
وطبتم فمن آثار طيبكم طبنا
فما شئتم شئنا وما كرهتم كرهنا
وما قلتم رضينا وصدقنا
فنحن مواليكم تحن قلوبنا اليكم
اذا الف الى الفه حنا
نزوركم سعياً وقل لحقكم
لو ان على احدقنا لكم زرنا
ولو بضعت اجسادنا في هواكم
اذن لم نحلو عنه بحال ولا زلنا
واباءكم منهم ورثنا ولاءكم
ونحن اذا متنا نورثه الابنا
وانتم لنا نعم التجارة
لم نكن لنحذر خسراناً بها ولا غبنا
وانتم لنا غوث وامن ورحمة
فما منكم بد ولا عنكم مغنا
ومما لازم كثيراً من حالات زيارة كربلاء في الشعر الحسيني الاستشعار لشمائل سيد الشهداء السبط (سلام الله عليه) والاحساس العالي بذكر مناقبه وسجاياه وقد ظهر هذا المعنى في مراثي عدة وافرة من الشعراء في خلال تصويرهم التوجه نحو المزار الحسيني المقدس ومن هؤلاء الشعراء السيد الحميري في القرن الثاني والصنوبري في القرن الرابع وكذلك العبدي من نفس القرن وابن العودي القرن السادس وجلال الدين بن المطهر القرن الحادي عشر ومثله عبد الوهاب الطريحي ومحمد بن السنين الحلي ومنهم في القرن الثاني عشر فرج الله الحويزي وفي القرن الثالث عشر درويش بن علي البغدادي والشيخ ابراهيم صادق العاملي، وقد يأتي هذا الاحساس بعظمة الشمائل الحسينية متلبساً بما يفوز به الزائر من عطر روحي وشميم من مسك لا يكاد يلقاه في غير كربلاء وهذا يحمل للزائر لوناً من السعادة الروحية الفريدة تجتذبه دوماً الى مأتى الامام الشهيد (عليه السلام) والى شد الرحال لزيارة على بعض الشقة وطول المسافات ومن هذا الشعر المعبر عن السعادة الممازجة للحزن نماذج كثيرة ووفيرة نظير ما قال الصنوبري في ابياته التي منها:
نشم ممسك ذاك الثرى
ونلثم كافور تلك الترب
ونظير ما مر بنا من شعر عبد الحسين الاعسم اذ قال:
مررت به مستنشقاً طيبه الذي
تضوع من فياح طيبك فائحه
*******