لكن قائد عمليات التطبيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يُصب بيأس، استدار نحو الملعب الدائم للنفوذ الأميركي في العالم الاسلامي مُتدبّراً لقاءات سريعة علنية لها صدى إعلامي كبير بين «إسرائيل» وكلّ من الإمارات والبحرين وعُمان بمواكبة لقاءات غير علنية لا ترقى الى السرية بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والمسؤولين في الكيان الصهيوني كشف عنها قادة العدو وأكدوها.
هناك عاملان كبحا هذا الزحف العربي نحو «إسرائيل» وهما الانتصار السوري والعراقي على الإرهاب في بلديهما ومباشرتهما تنسيقاً عسكرياً وسياسياً غير مسبوق في الأهمية الميدانية والتوقيت.
ويكاد يجهض الخطة الأميركية الحديثة بقطع الحدود بين سورية والعراق.
وفيما كان الأميركيون يأملون بتطبيع سريع عربي «إسرائيلي» يرتدي شكل انهيار البيادق أصابتهم الدهشة باستمرار الحذر عند الدول العربية الراغبة بالتطبيع، وجاءت عملية محمد بن سلمان باغتيال الإعلامي جمال الخاشقجي، لتضيف أعباء إضافية على الدول المتورّطة بالتطبيع العلني والسري.
هذا ما دفع بترامب للبحث عن دوافع جديدة تعيد الحياة للتطبيع فلم يجد إلا أسلوب إعطاء «سياسة التخويف من إيران» الأهمية المركزية القصوى بمواكبة التخويف للابتزاز المالي كعامل مساوٍ في الأهمية.
لقد كان سادة البيت الأبيض يعتقدون انّ عام 2018 هو مرحلة إنشاء حلف عربي «إسرائيلي» يسقط آخر ما تبقى من جيوب للمقاومات العربية.
ولديه مهمة حصرية تتعلق بمنع التمدّد الروسي والصيني وخنق إيران.
وبما انّ السعودية اُصيبت بارتباك شديد بعد اغتيال الخاشقجي ادّى الى عطب عميق في دوريها العربي والإسلامي فتراجع معها التطبيع بما يعني من إلغاء للعداء مع «إسرائيل». وكان يفترض بالتطبيع العربي ان يؤدّي تلقائياً الى ازدياد المطبّعين مع «إسرائيل» في العالم الإسلامي ايضاً، وتجاه سياساتها مع كلّ دول العالم الى التحسّن من خلال المنطق الذي يقول بأنّ أصحاب القضية الفلسطينية أيّ العرب قد تصالحوا مع «إسرائيل» فلماذا نعاديها نحن؟ أليس هذا المنطق هو ما دفع الهند والصين والبرازيل وأستراليا وعشرات الدول الأخرى الى هذه السياسات الجديدة بالتقارب السياسي والاقتصادي مع الكيان الغاصب؟
ضمن هذه المعطيات العسكرية التي أوقفت إمكانية التطبيع مع «إسرائيل» بإلحاق هزيمة بسوريا استدار الأميركيون نحو العراق لتأمين بدائل لاستمرار هيمنتهم على المنطقة، فاعتبروا انّ مركزية حصر التخويف يجب أن تتجسّد بإيران ليس لمجرد الابتزاز المالي لدول الخليج (الفارسي)، كما كان يحدث دائماً بل للعودة الى إنتاج الحلف العربي الإسرائيلي المنشود أميركياً.
لماذا إيران؟ لأنها البلد الإسلامي الوحيد الذي اخترق الجيوبوليتيك الأميركي من أفغانستان وباكستان واليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، ألم تشكر منظمتا حماس والجهاد الإسلامي طهران على دورها الداعم بالمال والسلاح والإعلام والتدريب في وجه العدو «الإسرائيلي»؟ وهاتان آخر منظمتين تقاتلان «إسرائيل» بالرجال والنساء والأطفال في غزة والضفة الغربية وكلّ مكان، ولولاهما لكانت القضية الفلسطينية في مأزق تاريخي صعب.
هناك عامل إضافي يرتبط بنجاح الحلف الإيراني الروسي مع الدولة السورية في إنقاذ سوريا مما كان يتهدّدها من مئات آلاف الإرهابيين المدعومين من العرب والغرب و«إسرائيل» وكان يمكن للأميركيين اختيار تركيا لتنشيط التطبيع مع «إسرائيل» بخلفية كونها الراعي الأساسي للاخوان المسلمين لأنّ تركيا لا تجذب أحداً لأنها تعترف بـ«إسرائيل» منذ تأسيسها وتتعامل معها اقتصادياً.
لذلك تقوم الخطة الأميركية على محاولات فتح صراع أممي ضخم في شرق سوريا بين الأتراك والإيرانيين والإسرائيليين والروس والكرد وداعش والفرنسيين والدولة السورية وحزب الله بما يؤدّي الى استنزاف إمكانات كلّ هذه القوى في «طاحونة أمم» تمتدّ من حدود سوريا مع العراق حتى حدودها مع تركيا.
في المقابل يُصعِّدُ الأميركيون من تحركاتهم الأمنية في الخليج (الفارسي) بمواكبة استفزازات سعودية وإماراتية وبحرينية ضدّ إيران بما قد يؤدّي الى اشتباكات محدودة، يأخذها الأميركيون ذريعة للدفاع عن حلفائهم وتعطي مبرّراً لبلدان الخليج (الفارسي) بإنشاء حلف مع «إسرائيل» قريب من ناتو إسرائيلي عربي يزعم انّ مهامه تنحصر بإبعاد ما يسمّونه «الخطر الفارسي المجوسي» على العرب.
منطقياً يحمل هذا الحلف في مضمونه إمكانية انضمام دول عربية كثيرة ومفلسة إليه، فهناك مصر والأردن وجيبوتي والصومال والمغرب وتونس.
هناك عناصر تعترض نمو هذا الحلف وأولها صمود إيران ورفضها الانجذاب الى معارك كبيرة وواسعة في وجه دول الخليج (الفارسي) إلا في حالات الخطر الشديد، هذا الى جانب الدورين الروسي والصيني اللذين لا مصلحة مستقبلية لهما بإنهاء الدور الإيراني الإيجابي.
وهذا يفترض عدم وقوفهما على الحياد او على الأقلّ دعم الصمود الإيراني الكامل بأشكال مختلفة.
اما العنصر المخفي القاتل للخطة الأميركية فيتجسّد بعنصرين: التنسيق السوري العراقي الذي يفوق قوة وأهمية سياسة ما يحوز عليه ايّ «ناتو عربي» مجموع بعنصر أهمية وحيد وهو النفوذ الأميركي المجنون.
هناك أيضاً الدور الفلسطيني المواكب والقادر على بلورة انتفاضة فعلية وضخمة داخل أراضي 1948 والضفة وغزة ومخيمات سورية ولبنان والانتشار الفلسطيني في العالم بأسره.
بأيّ حال فإنّ قدرات محور المقاومة بدعم من الروس والصينيين في كلّ مكان جديرة بتهشيم هذا الناتو على قاعدتين: إجهاض مشروع تصفية القضية الفلسطينية وبالتالي ما يُسمّى «صفقة القرن» والمحافظة على إيران صديقاً كبيراً للعرب.
وفيق إبراهيم - البناء