الصوم فريضة على كل مسلم وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، كما أنه فرض في الديانات السماوية الأخرى، لكنه يختلف من حيث التعاليم والعادات والتوقيت.
الصوم في العراق عرف مع شعوبه القديمة التي سكنته من السومريين والآشوريين والكلدانيين والصابئة المندائيين، ولكن ما هي طبيعة الصوم وما الغاية منه، وفق المعتقدات التي كان يؤمنون بها؟
تباينت آراء الباحثين والمتخصصين بين من يرى الصوم عادة قديمة لدى الحضارات القديمة بغية التقرب الديني، وبين من يرى أن فرضه جاءت به الديانات السماوية، لكنه يختلف من حيث التطبيق بين ديانة وأخرى.
في بلاد الرافدين
وعن الصوم عند شعوب وادي الرافدين، يقول الباحث في علوم وتاريخ الحضارات والأديان الدكتور خزعل الماجدي أن الصوم عند السومريين كان يستند إلى أساس تحريم نوع معين من المأكولات الحيوانية أو النباتية لأسباب ظاهرها ديني ترتبط بأسطورة معينة، أما الأسباب العميقة فكانت اقتصادية في محاولة للحد من استهلاك نوع من اللحوم أو النباتات وخصوصا أيام القحط والكساد، ولم يكن الصوم تقليدا ثابتا ودورياً.
ويوضح الماجدي للجزيرة نت أن الصيام كان معروفا وممارسا بشكل واضح من قبل بعض الملوك الآشوريين، إذ نقرأ في أحد تلك النصوص على لسان الملك أسرحدون وهو يصف حاله بعد الصيام جائعا، ويبدو أن إصراره على الاستمرار في الصيام ربما يعود إلى كونه من أكثر الملوك الآشوريين تدينا، كما تشير إلى ذلك العديد من الرسائل الملكية، ويبدو أن هذا الأمر دفع بأطبائه ومستشاريه من الكهنة إلى ضرورة التدخل للتوقف عن تواصل الأيام في صيام الملك أكثر من ذلك للحيلولة دون الاستمرار في تدهور صحته.
وعن الكلدانيين يشير الماجدي إلى أنهم كانوا يصومون 30 يوما، وهي بعدد الأيام التي تقطعها الشمس من كل برج من أبراجها، ولا يأكلون ولا يشربون من شروق الشمس إلى غروبها، وكأن الصوم موجه للشمس (شمش) ويكون الإفطار خاليا من اللحوم غير أنه يتضمن الألبان والنباتات.
ويعتبر الصوم عند الصابئين من خيرة الأعمال، ويقسم إلى قسمين، الكبير والصغير. وذلك حسب كتاب الصيام عند الصابئة المندائيين للكاتب حسام هاشم العيداني.
فالصوم الكبير فهو صوم النفس قلبا وعقلا وضميرا، ورؤية وكلاما وسماعا، ومن خلال إمساكها عن الوقوع في المُحرمات.
أما الصوم الصغير فهو صوم الجسم عن الملذات الدنيوية، والغاية منه إخضاع النّفس في البدن وترويضها. ويعتبر الصوم الصّغير فريضة واجبة على الصَابئين في 36 يوما موزعة على مدار السنة.
من القرآن الكريم
الباحث في الفكر الإسلامي محمد البخاري يرى أن معرفة تاريخ الصيام عند البشر يمكن استنباطه من القرآن الكريم، كونه الأوثق تاريخيا في توثيق بعض الممارسات لدى الشعوب والديانات عبر التاريخ، ومن هذا المنطلق يفهم العمق التاريخي لممارسة الصوم عند مختلف الديانات.
ويقول البخاري لموقع الجزيرة نت إذا كان ثمة نص ديني لشعيرة الصيام في الكتب السماوية فكيف يُفهم ممارسة الصوم عند الأديان غير السماوية، معتبرا أن تسرب هذا السلوك الاعتقادي من الأديان السماوية إلى الاعتقادات الأخرى شيء طبيعي بسبب الاحتكاك الثقافي، أما بالنسبة للشعوب المختلفة فتسربت لها هذه الممارسات أو أنها كانت أديان سماوية بالأصل فانحرفت وبقت بعض بقايا العبادات فيها ومنها الصوم.
وأضاف أن الصوم له تأثير إيجابي على صحة الإنسان، ولا يمكن للديانات الوضعية اكتشافها من دون معرفة مسبقة من قوة مدركة تفوق قدرات البشر في تقنين ما ينفع ويضر من ممارسات عملية عبادية بأي صورة من الصور، مشيرا إلى أن هناك من يذهب إلى أن الصيام في الديانة الإبراهيمية والهندوسية القديمة وكذلك في الديانات البوذية لها أصل ديني سماوي يُفهم من خلال النص القرآني (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) والصيام فرض على الأنبياء وعلى الشعوب والبشر الذين أُرسلوا إليهم فانتقلت هذه الممارسة من جيل إلى جيل.
الذين كتب عليهم الصيام
ويؤكد علماء مسلمون أن المقصود في الآية الكريمة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) هو الأديان السماوية التي سبقت الإسلام.
وفي محل توضيحه لتفسير الآية الكريمة (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) يقول الناطق الرسمي لدار الإفتاء العراقية وعضو الأمانة العامة للمجمع الفقهي العراقي للوحدة الإسلامية الشيخ عامر البياتي للجزيرة نت أن كتب بمعنى فرض.
وأوضح أن المقصود بـ “الذين من قبلكم” هم أهل الكتاب أي الديانات السماوية، وكان قد فرض عليهم الصيام وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عزَّ وجلَّ ، لما في ذلك من زكاة النفس وطهارتها.
أستاذ تفسير القرآن الكريم في حوزة أنيس النفوس للدراسات الإسلامية الشيخ منتصر الطائي يرى وانطلاقا من قوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وبالتأسيس على الآية الكريمة (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) وهو التسليم لله بالوحدانية وهو القاسم المشترك بين جميع الشرائع السماوية، إلا أن هذه الشرائع قد تلتقي في بعض تعاليمها وأحكامها أو قد تفترق مع الحفاظ على تحقيق التسليم لله والانقياد والتقوى.
ويقول الطائي الصيام خير مثال لمحل التقاء الشرائع السماوية وإن اختلفت بعض صوره وتعاليمه بين شريعة وأخرى.
واستدرك بالقول “نحن ملزمون عند المقارنة، وبيان أوجه التقارب والتشابه في الكتب السماوية، أن نبين تحفظنا على بعض ما في الكتب السماوية غير القرآن من وجود تحريف ..”.
ويضيف الطائي: الصوم موجود لدى الشرائع السماوية وإن اختلفت أحكامه بين شريعة وأخرى، فبين ترك أكل السمك كما عند المسيحيين، وبين الامتناع عن تناول اللحوم وذبح الحيوانات كما عند المندائيين، وبين ترك جملة من المفطرات كما عند المسلمين، هذا غير التباين أيضا في مدته، يتضح أن الصوم موجود ومحل التقاء هذه الشرائع في قاسم مشترك هو التسليم لله.